القرآن ، الترجمة والتقليد في ضوء اللغة

فريد قبطاني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

« … رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)  وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)  يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) »
س 20 (طه).

« … رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) »
س 17 (الإسراء).

الغرض من هذه المحاضرة الرد على بعض التساؤلات بخصوص ترجمتي لآيات القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية في كتابي : « Le soleil se lève à l’Occident ». وعنوان هذه المحاضرة : « القرآن ، الترجمة والتقليد في ضوء اللغة » .

إن ترجمات القرآن إلى اللغة الفرنسية تقدر بأكثر من 120 ترجمة ، تعود أقدمها إلى سنة 1647. وتتفاوت هذه الترجمات من حيث الشهرة والذيوع والجدية ، ولكلٍّ منها ميزات معينة تُكسبها فائدة خاصة. والترجمة عموما إلى أي لغة كانت ليست بالعملية السهلة فهي مجرّد انعكاس يسمح بإدراك نسبي للنص المترجَم ؛ إذ لا يمكن الوصول إلى تطابق كلي بأي حال من الأحوال.

وهذه الظاهرة تجري على ترجمة القرآن الكريم أيضا إذ لا تسلم منها أي ترجمة ، على الرغم من أن مترجمي القرآن قد بذلوا قصارى جهودهم.

أضف إلى ذلك أن كثيرا من مترجمي القرآن لا سيما المسلمين منهم لا استغناء لهم عن الروايات والشروح المستقاة من التفاسير القديمة وتراكمات التراث الثقافي التي أثَّرت بنحو أو بآخر على ترجمتهم. أما المترجمون من غير المسلمين فغالبا وبدرجات متفاوتة لم تسلم ترجماتهم من قناعاتهم الفكرية وأفكارهم المُسْبقَة.

كل هذا حال كثيرا دون توظيف فعال للّغة بمنهج موضوعي علمي لنقل نص القرآن الكريم إلى الفرنسية و/أو إلى أي لغة أخرى على النحو الأمثل.

إن الصعوبة الكبرى التي تواجه الباحث تكمُن في القرآن الكريم نفسه ؛ إذ أن بعضا من آياته جاء – عن قصد – متشابها أو مزدوج الدلالة. فوجود مفردات متعددة المعاني يُلزم الباحثَ فحصها وتحليلها وفك تشابهها ، وذلك أملا في الوصول إلى تأويل القرآن.

والتأويل عندي هو فهم جوهر النص أو المعنى الأصلي للخطاب ، فهو العودة إلى معناه الأوليّ ؛ لأن نص القرآن الكريم له عدة مستويات للقراءة ترد متداخلة ومتكاملة فيما بينها. كما أن أسلوبه سهل ممتنع ، غني وذو أبعاد مختلفة ؛ لذا فهو يقتضي دراسة دقيقة تتناسب مع خصوصيته. وأذكر في هذا الشأن الآية 44 من السورة 41 (فصلت) :

{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }.

والسبب الأساس في الصعوبات والعوائق التي تواجه المترجمين في نقل النص القرآني بشكل دقيق وأمين إلى لغة أخرى هو أن معظمهم لا يغلّب الاعتماد على اللغة ولا يعطيها حقها من الأولوية وإنما يتقيّد بالمأثور ويلتزم بتفاسير القرآن الكريم التي لا شرعية لها سوى أن التيارات التقليدية نزّهتها وجعلتها الأساس الذي لا بد من الرجوع إليه لفهم القرآن رغم أن جميعَها نتاجُ أفقٍ ثقافي خاص وسياقٍ تاريخي محدود.

ومن اللائق هنا توضيح ظاهرة مهمّة وهي أن الغلاة من أهل التقليد يزعمون عدم جواز ترﺟﻤﺔِ اﻟﻘﺮﺁن اﻟﻜﺮﻳﻢ ﺗﺮﺟﻤﺔً ﺣﺮﻓﻴﺔ بدعوى أن هذه الترجمة تؤدي الى تقديس النص المترجم على حساب النص الأصلي إلى حد انصراف الناس عن القرآن الكريم والاستغناء عنه بالترجمة. محض عبث أليس كذلك ، نعم بهذه الذرائع ولا أقول الدلائل يبررون مواقفهم.

أما الترجمة بالمعنى فهي مستحبة عندهم وغالبا ما تتصدر ترجماتهم للقرآن الكريم عبارة « ترجمة معاني القرآن » تحسبا لأي نقد. وهذا في الواقع اعتراف منهم أن « ترجمة معاني آيات القرآن » ليست سوى « ترجمة تقريبيّة وعامة » وليست بأي حال من الأحوال ترجمة أمينة ودقيقة. وكان الأحرى ومن الإنصاف والدقة وصفها بأنها « ترجمة معاني آيات القرآن بما يتفق مع التقليد الإيديولوجي ».

وقد سبق لي أن شرحت أن ما أقصده بكلمة « التأويل » هو فهم جوهر الخطاب ومدلوله الأصلي دون غيره ولو كان هذا الخطاب يقتصر على كلمة واحدة. فعند فقدان أو نسيان تأويل النص كيف يمكن ترجمة ما يفهم جزئياً أو خطأ أو بالاقتصار على فهم الآخرين ؟ إن النص القرآني نزل بلسان عربي مبين لكن على قارئه أن يفهمه ويستوعبه بشكل صحيح.

أنا شخصيا لا أقول أنني توصلت إلى المنهج الكامل ؛ كما أني أنوي مراجعة الكثير من ترجمتي. وأنا على يقين أن ترجمة القرآن بشكل لائق تقتضي الإلمام بعدة تخصّصات وأنّ عمر الفرد لا يكفي لذلك. فلا بد إذن من عمل جماعي في إطار لجنة متنوّعة الاختصاصات ومؤهّلة علميا للتصدي لمثل هذا التحدي. لكن إنجازا مثل هذا لم يتم بعد من خلال لجنة على هذا المستوى الرفيع.

بذلت جهدي لترجمة الآيات التي أدرجتها في مؤلفاتي معتمدا على تخصّصات متنوّعة ، كما حرصت أشد الحرص على التحليل اللغوي ولا سيما الدلالي للغة القرآن بغية التوصّل إلى توافق نوعي بين لغة القرآن واللغة الفرنسية.

أما عن صيغة الترجمة التي قمت بها فرغم أنها خالَفَتْ أحيانا أسلوب الفرنسية إلا أنني :

  1. قمتُ بصياغة النص الفرنسي اعتمادا على النص العربي في نظمه وترتيبه والتزمْت بقواعد اللغة العربية في تركيب الجمل والعبارات ؛

  2. غالبا ما التَزَمْتُ بأزمنة تصريف الأفعال كما وردت في النص العربي ؛

  3. احترمتُ الاستعمال القرآني الذي يسمح في حالات معينة ، بالانتقال من المفرد إلى الجمع.

من وجهة نظري ، إن عدم التقيّد الكامل أحيانا بقواعد اللغة الفرنسة ترتّب عنه تفاعل مع النص الأصل بأمانة أكبر وتقريبه بشكل غير مسبوق دونما إخلال بفهم الترجمة على الإطلاق.

كما أن الاستغراق في البحث والتتبع المنهجي لدلالات المفردات المتداولة في القرنين السادس والسابع مكّن في بعض الحالات من الوقوف على المعاني المنسية لبعض المفردات نتيجة التداول المقيّد أو الفضفاض. وهنا تكمن أهمية علم أصول الكلمات « التأثيل » أو الإيتيمولوجيا.

إن مراعاة هذه النقاط مكّنت من فهم الآيات بدقة أكبر، لأن الغرض هو نقل المعنى الأصلي لكل كلمة من كلمات الآيات القرآنية إلى اللغة الفرنسية بأعلى دقة ممكنة.

وأضيف – كما ذكرت سابقًا – أنه رغم استحالة وجود ترجمة طبق النص الأصل تمامًا فاللافت للنظر هو أن الميزات الناتجة عن قراءتي التحليلية للقرآن لا تغيب على القارئ العربي ولا على متعدد اللغات. فالمطالع لترجمتي ، يخرج في أكثر من موضع بانطباع وكأنّ النص الفرنسي يجاري تقريبا نسق النص العربي كلمة بعد كلمة.

ينفرد نظم القرآن بصيغ وتعابير خاصة. وهي إحدى الخصائص التي جعلت منه نصا متميزا لا يُضاهَى. وتظهر آثار هذه الميزات الفريدة في ترجمتي وذلك لحرصي والتزامي بنقل النص الأصل بوفاء وأمانة قدر الإمكان.

ولقد لجأتُ في ترجمتي إلى استعمال كل مقومات اللغة الفرنسية القديمة منها والكلاسيكية والحديثة ، كما أنني اعتمدت على اشتقاق كلمات جديدة في الفرنسية كلما دعت الضرورة. ولقد أدت جميع هذه الخطوات إلى تفهّم جديد أكثر دقة وبلاغة مما كان متاحًا حتى الآن في الترجمات المألوفة ، بشرط أن يبذل الدارس جهدا في التفكير أحيانا.

هذا العمل ذو فائدة عالية للمتخصص المتعدد اللغات إذ يُمَكّنه من إدراك مدى التأثير المفرط لتراكمات قرون من التفسير التقليدي. وتتعاظم هذه الفائدة حين يحلل كلمات النص القرآني بدقة على المستوى اللغوي ولا سيما الدلالي بتقصي أصول هذه الكلمات وبالاستعانة باللغات الأفراسيوية أي اللغات الحامية السامية وعدم الاكتفاء بلغة الضاد التي تعود إلى القرن الثامن والسابع بل والقرن السادس.

ومع هذا لا أنكر أنه بسبب توخي الدقة المستمر فإن ترجمتي خالفت أحيانا قواعد النحو وأسلوب التعبير الأدبي في اللغة الفرنسية. كما أدى ذلك إلى عُسر في فهم بعض الآيات من الوهلة الأولى لكن يكفي إعادة القراءة والتنبه لصياغة العبارة في سياقها ليتضح المعنى.

وقد فضلت – عند الضرورة – تعريب الفرنسية وليس العكس ؛ وذلك ليتمكن القارئ أو السامع الناطق بالفرنسية من الغوص في أعماق الأسلوب القرآني ، ليتشبّع بالمعنى الظاهر وبالمعنى الكامن الخفي للآيات ؛ إذ لم تكن غايتي الأولى إنجاز ترجمة عبارات الآيات فحسب ، بل أيضًا ترجمة مضامينها بمستوياتها المتعددة.

وباختصار ، إنها ليست ترجمة أدبية ، بل ترجمة تقنية من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف ، للوصول إلى أقصى توافق ممكن بين التعبير القرآني واللغة الفرنسية.

وختاما أوصي الطلاب والباحثين الذين تهمّهم دراسة ترجمتي بالرجوع إلى القواميس القديمة والحديثة للغة الفرنسية ، وتلك الخاصة بأصول الكلمات وعلم المعاجم والمرادفات ، وموقع CNRTL يبدو لي أداة جيدة لهذه الغاية.

كما أنصح الذين يتقنون عدة لغات بالعودة إلى أمهات المعاجم العربية كمعجم العين ولسان العرب.

وأُذكِّر في هذا الصدد أن الناطقين بالعربية المختصين في اللسانيات أو في التفسير أو في أي مجال يتعلق بدراسة القرآن ليس بوسعهم إثراء معارفهم والتمكن من مواضيع دراستهم دون التعامل مع هذه المصادر بعين النقد وعدم الأخذ بما فيها كمسلمات بل هي قابلة للتحليل والغربلة.

وما ينطبق على الناطقين بالعربية ينطبق أكثر على الذين لا يعرفون لغة الوحي ، وأقصد هنا الناطقين باللغة الفرنسية ؛ إذ أن غالبا ما تكون جلّ معرفتهم عن القرآن وعن الإسلام هي الصورة السلبية والنمطية الرائجة والمعادية للإسلام التي يتناقلها أولئك الذين يدَّعون أنهم مختصون في الإسلام وهم في الحقيقة أشد أعدائه.

بعد هذا العرض أسوق بعض الأمثلة من هذه الترجمة وفق المنهج المتبع ولأستدل على ما عرضته.

 

  1. إن كلمة « أَعْرَبَ » ومادتها « ع – ر – ب » في اللغة العربية معناها أبان وتكلم بفصاحة وبصراحة فيأتي الكلام واضحا بَيِّنا صريحا.

أما كلمة « أَعْجَمَ » فمادتها « ع – ج – م » ومعناها أبهم الكلام ولم يُبيّنه فيأتي الكلام مبْهما معقّدا غير واضح.

فكلمة عربيّ تدل على الكلام البيّن والفصيح هي إذن ضد كلمة أعجمي التي تدل على الكلام غير البيّن وغير الفصيح أي الغامض الذي يحتاج تبيينا ليُفهم.

يفهم من هذا أن وصف القرآن بالعربي في بعض الآيات لا يراد به لغةً بعينها أو لغةَ جنسٍ أو قومٍ بعينهم وإنما المقصود منه أنه قرآن بيِّن وواضح. ويكفي الرجوع إلى الآيات التي وردت فيها عبارة « قُرْآنًا عَرَبِيًّا » للتأكد من ذلك.

من أجل ذلك ترجمتُ كلمة « عربي » إلى الفرنسية بكلمة « franc » لأن ثمة توافق تام بين الكلمتين في المعنى أي التعبير بإبانة ووضوح دون تكلف ولا تردد. اللافت للنظر أن هذا المعنى ينطبق على كل من اللغة الفرنسية والعربية.

 

  1. تشترك كلمتا « عالَم » و « عالِم » في مادة واحدة وهي « ع – ل – م ». ومنها كلمة « عِلْم » مفرد « علوم » أي المعرفة.

والعالَم أي الوجود ذو صلة وثيقة بالعِلم أي بالمعرفة الموضوعية التي يكتسبها الإنسان عن هذا العالَم. فماهية هذا العالَم مبنية أساسا على هذه المعلومات الأولية أي أن المعلومات هي مكوّن أولي للقوانين الكونية. إذ لا يمكن إدراك العالَم الحقيقي إلا عن طريق المعرفة العلمية ، وعليه أي منحى آخر لوصف العالَم وتفسير الواقع يكون من وجهة نظر ذاتية أي غير موضوعية ، ينتج عنه الخرافات والأساطير والرؤى الوهمية والخوارق التي تعطي الأشياء والأجسام نوعا من القدرة الخارقة.

كذلك كان تصور غالبية القدماء لعوالم خرافية وخيالية تعبر في أغلب أشكالها عن الجانب اللاعقلاني وتُغَيِّب الوعي والعقل ، لكن مع ذلك فقد كان لديهم حدس بأن العالَم له معنى وهدف.

في الواقع إن ذلك المستوى من الوعي القاصر والبدائي بالمقارنة بالمعارف المكتسبة منذئذ ، مهَّد لإرساء الفكر والبحث العلمي الذي نشهد نتائجه المذهلة اليوم وكل يوم.

 

  1. كلمة « الإسلام » لغةً من مادة « س – ل – م » والتي منها « سِلم » أصغر كلمة. فمفهوم الإسلام مشتق من السلم والسلام لفظاً ومعنى. وعليه فالإسلام هو تحقيق السلم والسكينة وإقامة السلام واستعادته وصيانته. إنه الخضوع لله بسلام. فالإسلام هو تفعيل وتثبيت للسلام والكلمة المناسبة لهذا المفهوم في الفرنسية هي « pacification ». فمن يسلم نفسه لله يدخل في السلم ويكبح جماح التمرد والعصيان في نفسه ومِن حولِه فهو مسلم « pacifié » ومسالم « pacifiste » يجنح إلى الهدوء والأمن والطمأنينة ، خال من الصراعات والنزاع ؛ فيصبح قلبه سليما صالحا ويكون في حالة سلام مع الله ومع خلقه.

 

  1. الكلمات المكوّنة من مادة « د – ي – ن » تعبر عن معنى ما هو حق عليك والمطلوب منك لدى الآخرين مثل القرض كما تعني أيضا الواجب ، ما هو حق عليك بالأداء إلى الله. لذا أترجم هنا كلمة « الدين » بكلمة Créance.

 

  1. إن كلمتي « أَمْن » و « إيمان » تنحدران من مادة واحدة وهي « أ – م – ن » , وكلمة « أَمْن » هي أدنى صيغة من هذه المادة للتعبير عن الطمأنينة والضمان والأمان.

والإيمان بالمفهوم القرآني يُكتسب عن طريق المعرفة أي بالتحرّي والتأكّد والتثبّت ، فهو ليس مجرد مسلمات نسبية وغامضة.

فوجود الله فطري عند الإنسان ويكون بما أوتي الإنسان من ملكة العقل. إن الشهادة بالله تكون بالضرورة عن علم وإدراك.

أترجم كلمة « المؤمن » بكلمة « l’assurant » لأن المؤمن يبحث ويتحرى الحقيقة للوصول إلى اليقين الذي لا يخالطه شك ومن ثم يصبح آمنا ومؤمنا.

 

  1. جاء في لسان العرب : « الصَّلا وسط الظهر من الإنسان ومن كل ذي أربع ، وقيل : هو ما انحدر من الورِكين ، وقيل : هي الفُرجة بين الجارِعة والذَّنَب ، وقيل : هو ما عن يمين الذَّنَب وشِماله ». وفي سباق الخيل تطلق كلمة « المُصَلِّي » على الفرس « الذي يجيء بعد السابق لأن رأسه يَلي صَلا المتقدِّم وهو تالي السابق » و « يقال : صَلَّى الفرسُ إذا جاء مُصَلِّياً ».

وتأدية الصلاة تكون بتتابع ووصْل الحركات وإلحاق بعضها ببعض وهو ما يقوم به المُصَلِّي أثناء أداء صلاته. وكذلك فعل إبراهيم مع إسماعيل – عليهما السلام – حين رفعا القواعد من البيت في مكة إذ وَصَلا بين المبنى وقواعده ، وكذلك يفعل المسلمون حين يطوفون بالكعبة ويَصِلون بينها وبين الصفا والمروة سعيا.

فصلاة المسلم من حيث تتابع ووصل القيام بالركوع ثم الارتفاع حتى الاعتدال قياما ثم السجود ثم الجلوس حتى الاستواء كلها حركات متتابعة متصلة بعضها ببعض ، كل منها تفضي إلى التالية. من هنا كان اختياري لكلمة « jointoiement » لأنها تشتمل على كل هذه المعاني.

 

  1. جرت العادة أن تُترجم كلمة « مسجد » إلى اللغة الفرنسية بكلمة « Mosquée » التي تُقرأ (مُسْكِ). إلا أن هذه الكلمة دخلت إلى اللغة الفرنسية عبر الكلمة الإسبانية « mezquita » التي تُنطق (مِسْكِطَ) المقتبسة من كلمة « مسجد » لكن كلمة « Mosquée » تحجب المعنى الأصلي لكلمة « مسجد » التي مادتها « س – ج – د » وهو اسمٌ صيغَ من الفعل الثلاثي على وزن مَفْعِل ومعناها « مكان السجود ».

لهذا السبب فضلت أن أترجم كلمة « مسجد » بكلمة « prosternat » التي تُقرأ (بْرُوسْتَرْنَ) والتي تعني « مكان السجود » أيضا وهي مشتقة من كلمة « بْرُوسْتَرْنِ » أي فعل « سجد » بالفرنسية. واختياري هذا يسمح لغير المعرّب بالوقوف على المعنى الأصلي لكلمة « مسجد ».

 

  1. معنى الزَّكاة في اللغة العربية هو النَّماءُ والطهارة والصفاء والزيادة. والزَّكاةُ في الشرع حِصّةٌ من المال تؤدى إلى المستحقين وذوي الحاجة. لذاك ترجمتُ كلمة « الزكاة » إلى الفرنسية بكلمة « épuratoire » التي هي أقرب من غيرها إلى هذه المعاني.

 

  1. إن مادة كلمة « حجّ » هي « ح – ج – ج » ، ومن معاني الحجّ في اللغة : الغلبة بالحجة ، وفعل « حاجَّ » معناه جادل وخاصم ونازع وناظر بالحجَّة أي دافع عن رأيه بالحجة إتيانا بسلسلة من الحجج بغية بلوغ الهدف المنشود.

والحجّ في المعاجم هو « القصد »، ومن هنا جاء مصطلح الحجّ أيضا وهو قصد البيت الحرام لأداء المناسك.

ثمة قاسم مشترك بين « المناظرة بالحجة » و « حج البيت الحرام » لأداء المناسك ؛ فكلاهما سعي وقصد بنية الوصول إلى غاية معينة ؛ لذا قمت بترجمة كلمة « حجّ » بحسب السياق إما بكلمة « pèlerinage » أو « argumentation ».

 

  1. تشترك كلمتي « الظلمة » و « الظلام » مع كلمة « الظلم » في المادة « ظ – ل – م ». أما معانيها فمعنى « الظلمة » و « الظلام » هو السواد والعتمة أي انعدام النور سواء حسيا أو معنويا ومعنى الظلم هو الجور ووضع الشيء في غير موضعه أي ضد العدل.

فالمتأمل يلحظ تلازما بين الظلم والظلام ، فالظالم كمن يسير في الظلمة وانعدام النور فهو لا يبصر بل يتخبط ولا يرى معالم الطريق ويضع الأشياء في غير محلها ؛ فينحرف عن الصواب ويغرق في الظلام والظلم فتتراكم الظلمة عليه وتؤول به إلى ارتكاب المظالم فيصبح ظالما إلى درجة الغياب في غياهب الظلام الفكري والروحي.

بناء على كل ما سبق يمكننا القول بأن الظالم مُظلِم وظلاميّ والعكس صحيح أي أن المُظلِم والظلاميّ ظالم بل حتى المظلوم أي من وقع عليه الظلم يكون مُظلِم إذ يمارَس عليه التضليل ، وتبعا لذلك تظلم الدنيا في عينيه ولا يقدر على شيء.

واللافت للنظر هو أنه يُنسب إلى الرسول عليه السلام حديث رواه كل من مسلم والبخاري يؤكد العلاقة بين الظلم والظلام والظلامية : « اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ». على ضوء هذه المعطيات ترجمت كلمة « ظالم » بكلمة « obscurantiste ».

وجاء في الذكر الحكيم في الآية 16 من السورة 13 (الرعد) : { … قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ … }.

وأذكّر هنا أنه على عكس عربية القرآن فإن مفهوم « الظلامية » (obscurantisme) لم يظهر في اللغة الفرنسية إلا منذ القرن التاسع عشر ، وتحديداً منذ عام 1819 ، للدلالة على أن الظلاميةَ معارضةٌ للتنوير.

 

  1. الباء حرف جر يفيد معاني عدة مثل الاستعانة والسببية والمعية والظرفية مكانيا أو زمانيا كما تفيد التعدية والقسم والإلصاق والتوكيد وغيرها من المعاني. وقد يجتمع أكثر من معنى في العبارة ، لذلك أوليْتُها أهمية قصوى وترجمتها بكلمة « par » على أن يتم تعيين وتحديد معناها من سياق الآية.

أودّ أن أختم محاضرتي بالتنبيه على ظاهرة غريبة بين اللغتين العربية والفرنسية وهذه بعض الأمثلة :

 

  1. كلمة جَنَّة جمعها جَنَّات وجِنَان ، إنها المكان الذي وضع الله فيه آدم عليه السلام بعد خلقه ففيه كانت بداية الإنسانية ، وكلمة « génèse » في الفرنسية والتي تنطق « جِناز » تعني بدء خلق الإنسانية ونشأتها وتكوينها.

 

  1. أما كلمة « جهنم » في العربية وهي دار العقاب في الآخرة فتُقابلها كلمة « géhenne » في الفرنسية والتي تُنطق « جِهان » ومعناها جهنم أيضا.

 

  1. إن كلمة « gène » في الفرنسية تُنطق « جَان » وهي مشتقة من مادة يونانية تعني الجنس أو العرق ، وفي العربية تُطلق كلمة « جان » على جنس من المخلوقات غير الإنس.

 

  1. أما « الأجِنَّة » التي هي جمع جنين فتقابلها في الفرنسية كلمة « génotype » التي تُنطق « جِينُوتِيب » وتُطلق على النمط الجيني وهو عبارة عن مجموعة المعلومات الوراثية التي يحملها كل كائن حي منذ بداية تشكله.

 

  1. أما كلمة « الجِنَّة » التي هي جمع « جان » فيمكن أن تشير إلى كل ما عُدِّلَ جينيا أي ما تم تغيير جيناته ومقابله بالفرنسية « transgénèse ».

 

  1. وتطلق كلمة « مجنون » على من حجب عقله وفسد وهو الذي به مس من الجن وكلمة « transgénique » في الفرنسية تعني ما أحدث فيه تغييرا نتيجة نقلة جينية أي وراثية غريبة عليه.

 

بالإضافة إلى ذلك نلاحظ أن كل هذه الكلمات التي مادتها « ج – ن – ن » لها معنى مشترك هو الستر والخفاء والتغطية.

وختاما نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى في الآية 85 من سورة 17 (الإسراء) :

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا }.

والحمد لله رب العالمين.

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لمؤسسة حفظ و نشر أعمال السيد فريد قبطاني