فريد قبطاني
غالبا ما تناقَش هذه المسألة في الغرب حيث درجت العادة على القول بالتعارض بين الإيمان والعقل. بيد أن المتأمل في هذا الأمر يدرك أن القطيعة بين الإيمان والعقل ظاهرة خاصة بالثقافة الغربية وقد بلغت فيها حدا لا نظير له مقارنة بالثقافات الأخرى ؛ إذ لا توجد ثقافة أخرى اقترن الدين فيها إلى هذا الحد بالظلامية أي الاعتقاد بأن الدين ينفي الملكات العقلية التي يزن الإنسان بها الأمور ويحكم بموجبها.
تم إرساء أسس هذا الفكر في القرن الثامن عشر، فيما يسمى بعصر التنوير. ففي تلك الحقبة عمل المفكرون والفلاسفة على بعث حركة للتحرر من سلطة الكنيسة ولانتزاع الشرعية عن التأثير الديني في المجال الفكري. شكلت هذه الحركة ثورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية ، إذ لا تزال آثارها الثقافية واضحة حتى الآن أي بعد ثلاثة قرون.
لكن الواقع أن هذه الفترة لم تحظ بالدراسة النقدية الوافية لفهم كل الملابسات التي أفرزتها ؛ فغالبا ما عُرِضت على أنها انتصار الإنسان على اللامعقول والخرافة. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة نشأت في المحيط الأوروبي وأنها وليدة بيئة الغرب المريض بإرثه الديني اليهودي والمسيحي دون أية علاقة آنذاك بالأديان والثقافات الأخرى في سائر المعمورة ، فإن القطيعة بين الإيمان والعقل ما لبثت أن عُمِّمَت على سائر المعتقدات البشرية وانسحب ذلك الموقف على الدين بمفهومه العام. فالطعن والتشكيك استهدفَا ظاهرة الإيمان ذاتها حتى أصبح أي بصيص لفكر أو مَظهر ديني يُنعت بأنه تعبير عن القصور العقلي للإنسان وخوفه الخرافي من المجهول.
فالمادية الإلحادية ظلامية متنكرة في شكل تقدمية. هي مخادعة ومدمرة إذ تنقل علما مبتورا وإدراكا قاصرا. فهي بإنكارها البُعد الروحي للإنسان وبتقليصها لغايته وبالتشهير به وبنزعها صفة الإنسانية عن الفرد والمجتمع من خلال نظريات مبسّطة ظاهريا تنزع عن الإنسانية جوهرها وسبب وجودها.
والواقع أن الدين شبيه بالدواء ؛ لا غنى عنه لمعالجة شر من الشرور ولكن قد تكون له آثار جانبية غير مستحبة في حالة سوء فهم أو عدم الالتزام بوصف العلاج أو بكليهما. والروحانية بالنسبة للدين هي العلاج بالنسبة للشفاء : لا يوجد دين بدون روحانية حقيقية كما لا يوجد شفاء بدون علاج فعال.
وهنا يجوز التساؤل عما إذا كان هذا الفكر الثوري مغاليا في استنتاجاته بل ومتطرفا لدرجة أنه أقام حواجزا وعقبات ضد أي شكل من أشكال الفكر له علاقة بالدين أو يمت بصلة إلى الإيمانيات الغيبية الميتافيزيقية. إن نقد الحركة التنـويرية التي ظهرت في الغرب وموقفها من الدين وتداعيات ذلك كله أمر جوهري لأنه يرتبط بمعنى الوجود ومفهوم الحياة.
* * *
في فجر الألفية الجديدة ، يُجمِع الكل على أن العالم يواجه العديد من الأزمات البيئية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية… وذلك على الرغم من أن التقدم في مجالات العلم والتكنولوجيا مذهل للغاية. وبالتالي ثمة مفارقة عجيبة بين العلم والمعرفة التقنية من جهة وتداعي النظام الذي أنتجهما من جهة أخرى.
إن مسألة مغزى الوجود والمصير قد عادت لتُطرَح بقوة من جديد ، واضعة في الواجهة التحول المحموم لمجتمعات تُوغِل في العولمة ، يعيش أفرادها في ارتباك بدون هداية. ارتبطت العولمة بالتطور التكنولوجي الهائل. فالتطور لم يعد مُتحكما فيه لأن الاكتشافات التكنولوجية هي الوحيدة التي تقوده دون مراعاة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والنفسية أي دون الاكتراث بالعوامل الإنسانية.
في هذه الظروف ولأسباب أخرى تَلْقى مسألة الخالق اهتماما من جديد. فالمجتمع العلمي يكتشف أكثر من أي وقت مضى النظام المذهل للكون وللحياة وللإنسان. وقد أصبح معروفا علميا أن الكون كان منذ البداية يحتوي على الخصائص الضرورية لوجود الإنسان والتي بمقدور العقل البشري استيعابها. من أجل ذلك أضحت مسألةُ الخالق ، مسألةُ المبدأ الأول أو سبب الأسباب كقوة عاقلة ومدركة ، مسألةً علمية لا مفر منها. فنحن على عتبة فكر له تداعيات خطيرة ، لابد أن يعيد النظر في مسلمات لها قرنين من الزمن.
* * *
سأعمد لتلخيص بعض النظريات العلمية بغرض فهم بُعدها الفلسفي وسأسرد بعض الحقائق المثبتة علميا وأثرَها على فهمنا للوجود ، وأعني بذلك الاستدلال على أن كل ما في الكون مسْلم لله وأنه يشهد بوحدانية الله سبحانه وتعالى ، الذي خلق كل شيء وأحكم خلقه. يمكن لكل قارئ استبيان صحة الحقائق التي أعرضها هنا إذ سأذكر بعض الأعمال والمكتشفات لعلماء كبار. فالعلماء المؤمنون لا يتغاضون في تذكير العالم بأن المكتشفات العلمية كلها تشهد بوجود مبدأ واحد خالق مدبر هو الله عند المؤمنين. هذه هي الرسالة التي أسعى إلى تبليغها لكم بدوري.
{ قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كَانَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرۡتُم بِهِۦ مَنۡ أَضَلُّ مِمَّنۡ هُوَ فِي شِقَاقِۢ بَعِيدٖ 52 سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَ لَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ 53 أَلَآ إِنَّهُمۡ فِي مِرۡيَةٖ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمۡۗ أَلَآ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءٖ مُّحِيطُۢ 54}[1] |
رزحت أوروبا لعدة قرون تحت نير الفكر الواحد ومحاكم التفتيش التي لم تُلغَ نهائيا في إسبانيا إلا في غضون سنة 1834. فقد كان التعبير عن أفكار جديدة أو رأي مخالف للدين الرسمي يعرّض صاحبه لأشنع أنواع التعذيب والقمع وربما للقتل. لذا لا يوجد في إسبانيا وصقلية أثر لمسلمين محليين على الرغم من تواجد المسلمين بهما لعدة قرون. ففي بداية القرن العشرين لم يبق في أوروبا جراء حملات التنصير والتهجير القسري إلا المسيحيون وأقلية ناجية من اليهود ، بل وتم إبادة الكثير من هؤلاء أثناء الحرب العالمية الثانية. لم تبلغ أية حضارة هذه الدرجة من القمع لحرية الفكر والمعتقد ، بينما لا تزال أقليات عرقية ودينية تتعايش في الهند والصين والشرق الأوسط وفي إفريقيا وغيرها. ففي القرن الثامن عشر على سبيل المثال ، ناضل أمريكان الشمال لا للتخلص من القبضة الاقتصادية والسياسية للتاج البريطاني فحسب بل ومن نظام قديم مستبد يلغي الحريات أولا وقبل كل شيء .
بدأ العلم والفلسفــة الحديثـة في أوروبــا مع علمــاء أمثال غاليليو (1564-1642) ، يوهانس كبلر (1571-1630) ، رينيه ديكارت (1596-1650) ، بليز باسكال (1623-1662) ، إسحاق نيوتن (1643- 1727) ، إدموند هالي (1656-1743) وديفيد هيوم (1711-1776) وإيمانويل كانط (1724-1804) وأنطوان لافوازييه (1743-1794) وفريدريك هيغل (1770-1831) وكارل غاوس(1777-1855) وتشارلز داروين (1809-1882) وكارل ماركس (1818-1883) ولويس باستور(1822-1895) … وفي أعقابهم بدأ المثقفون الأوروبيون في القرن الثامن عشر والتاسع عشر يطالبون بإصلاحات اجتماعية وسياسية ، ثم تصدوا باسم المعرفة « العلمية » للإطاحة بنظام الكنيسة الظلامي المُخنق.
ولما كانت الكنيسة هي السلطة المتحكمة والسائدة ، آنذاك في أوروبا ، لم يكن لهذه النخب مفهوم عن الله إلا من خلال المسيحية أو اليهودية ، فإن أنصار التنوير كانوا يعتقدون أنه إذا تم نقض المغالطات العلمية في الكتاب المقدس ونزع القداسة عنه فإن مبدأ وجود الله سوف يتلاشى ويزول.
أما مفهوم الكون فقد تغير تدريجيا وأصبح الكثيرون يرون ، استنادا للميكانيكا السماوية ، أنه ليس أكبر من مجرة درب التبانة ، وأنه ثابت وأبدي. وقد ساد الاعتقاد أن الحياة نشأت بشكل تلقائي من مادة ميتة ، تحت تأثير العوامل الفيزيائية والكيميائية ؛ وعليه فإن مكوّنات الكون كله وما يتكوّن فيه هو وليد الصدفة.
تزامنت بوادر العلم الحديث في الغرب مع حملات اضطهاد مارستها الكنيسة في أوروبا خلال عهود طويلة ؛ وقد نتج عن هذا ردة فعل طبيعية وثورة عنيفة على ذلك الواقع لا تزال آثارها قائمة في القرن الحادي والعشرين. فانطلاقا من نظرية التطور الداروينية وجدلية هيغل والمادية الجدلية لماركس تم صياغة الإلحاد كأيديولوجية. منذ ذلك الحين وعلى مدى أكثر من مائة سنة وتحت ستار العلم ، فُتح الباب على مصراعيه لدعاة الإلحاد لتشكيل وتكييف العقليات وفق مفاهيمه ، من خلال التعليم ووسائل الإعلام وجميع وسائل الاتصال.
والواقع أن الترويج لزرع الإلحاد قد بلغ اليوم درجة أصبح فيها غالبية الناس يظنون أن الإيمان يتعارض مع العلم. فالاهتمام الحصري للإنسانية بالمادة وبالاستهلاك أصبح قيمة وغاية في حد ذاته. أما المسائل الجوهرية كخلق الكون ومغزى الحياة فقد أصبحت أسئلة ثانوية بل وغريبة في نظر البعض.
إن الاعتقاد الشائع بأن العلماء أهل إلحاد وأنهم ينكرون الخالق أمر غير صحيح ولا يمت للواقع بصلة. والصحيح أن أكثر المشتغلين بالعلوم في عصرنا هذا مؤمنون ، وأن منهم من تحول مِن الإلحاد إلى الإيمان. لكن هذا أمر يُتَفادى التصريح به وسط الإحصائيات المُضلِّلَة لاسيما أن بعضا من هؤلاء العلماء يكتم إيمانهم خوفا على مسارهم المهني. فالإلحاد أصبح يسيطر على أماكن القرار بعد أن استحوذ على مكان الكنيسة وأصبح له نفوذ في كل مجالات الحياة إلى درجة أنه يمارس الضغط والإقصاء ضد معارضيه.
والحقيقة أن الاكتشافات العلمية في كافة المجالات تثبت وجود الله أكثر من أي وقت مضى وكلما ارتقى العلم أصبحت الأدلة على وجود الله كثيرة لدرجة لا يمكن دحضها علميا. فالعلم الحديث أكثر دلالة على وجود الخالق وتأييدا للإيمان بالله. الإيمان بالله ، كقدرة خلاقة مدبرة تقف وراء الوجود.
* * *
في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ساد الاعتقاد أن الكون أبدي وثابت. وعُرف هذا النموذج الكوني باسم « نظرية الحالة المستقرة ». لقد بذل أنصار هذه النظرية جهودا كبيرة لتحسينها نظرا لأنها تدعم أن الكون أزلي موجود منذ الأبد ، فلا بداية له ولا نهاية ؛ لذلك لا يحتاج إلى خالق. لكن جهودهم أخفقت لأن العديد من الاكتشافات ، بما في ذلك شكل الجسم الأسود[2] والخلفية الكونية المكروية الموجة[3] ، يثبتان عدم دقة هذا النموذج. ولا تزال البقية القليلة من مؤيدي هذه النظرية تعتقد أن الكون نظام عظيم ومغلق ، يتكون مما هو موجود من المادة والطاقة. حجتهم في ذلك قانون الديناميكا الحراري الأول ، ومبدأ حفظ الطاقة ، أي أن الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث وإنما تتحول من صورة إلى أخرى.
لكن هذا الدليل لا يقوم إلا في حالة تجاهل القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينص على أنه مع مرور الزمن يصبح أي نظام معزول ومغلق غير مستقر بل ويفقد تنظيمه حتما وبشكل لا رجعة فيه. لنفرض جدلا أن الكون أزلي كيف يمكن إذاً تفسير أن الكون ليس في حالة من الفوضى حتى الآن إن كان وجد منذ الأزل ؟ والرد هو أن الكون لابد أن يكون بدأ في حالة أنتروبية منخفضة للغاية عند نشأته ، ومنذ ذلك الحين بدأت الديناميكا الحرارية في العمل وهذا يعني أن القانون الأول للديناميكا الحرارية ، إذا تأكد فعلا ، لا ينطبق إلا بعد خلق الكون ، أي بداخله ، ولا ينطبق على أصل الكون.
{ أَوَ لَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَــرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰـوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗــا فَـفَـتَـقۡـنَٰهُمـَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُـونَ 30}[4]{ وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٖ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ 47}[5]{ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ 11}[6]{ لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ 40}[7] |
من النظريات الفيزيائية السائدة بين العلماء في يومنا الحاضر أن للكون بداية وقبل نشأته لم يكن للفضاء ولا للزمان ولا للمادة ولا للطاقة وجود ، لم يكن ثمة شيء. وفجأة ، بدأ الكون يظهر ويتطور… ويفسر بعضهم ذلك بميكانيكا الكم. ففي البدء كانت هناك الطاقة والجسيمات وأن كل شيء ، بما في ذلك المعلومات ، قد نتج عن ذلك. فإن كانت ميكانيكا الكم تُخبرنا بأن الجسيمات تحت الذرية يمكن أن تنشأ من لا شيء ، وهذا يعرف بالفراغ الكوانتى ، فإن هذه التقلبات تحدث ابتداء من القوانين الكمومية.
تحتوي قوانين ميكانيكا الكم على المعلومات حول تشكيل الجسيمات وتحوليها إلى جسيمات أخرى أو تدميرها. فالطاقة والجزيئات ليست هي مصدر المعلومات ، بل العكس. فالكون بدأ مع المعلومات وقوانين الفيزياء والطاقة والجزيئات… ويستخلص بعضهم[8] على عجل ، أن الكون ظهر بفضل قوانين الفيزياء ، أي بفضل قانون الجاذبية مثلا ، وأن الكون قد خلق نفسه بنفسه من العدم.
إذا سلمنا أن المعلومة هي أساس كل شيء[9]، فالعدد 1 لا يخلق شيئا ، والقانون الحسابي 1 + 1 = 2 يوضح على سبيل المثال أنه إذا تم إضافة كتاب إلى كتاب نحصل على كتابين ، لكن إذا لم نقم بعملية الإضافة والزيادة فقانون الحساب وحده لا يحدث شيئا. فالقوانين الرياضية التي تسمح بتفسير الظواهر الطبيعية وبتَوَقُّعِها ليست قادرة على أن تخلق هذه الظواهر. كذلك الأمر بالنسبة لقانون الجاذبية والذي لا يفسر الجاذبية نفسها ، ليس بقادر على أن يصنع الجاذبية ولا الأجسام والكتل التي تؤثر فيها الجاذبية. وبالتالي فإنها أقل خلقا للكون.
لابد من التنويه بأن قوانين الفيزياء بذاتها لا تخلق شيئا ، إنها مجرد تفسير للظواهر بعد حدوثها بسبب. فالسيارة وجدت وتسير على الطريق بفضل قوانين الفيزياء ، لكن هذه القوانين لم تخلق السيارة ولا الطريق. وبالتالي يمكن القول أن قوانين الفيزياء وُضِعت بمحض إرادة عاقلة كما هو الأمر بالنسبة للسيارة وللطريق. وكما أنه لابد للسيارة من مصمم يُبدئ تشغيلها ويسوقها فكذلك الأمر بالنسبة للوجود ، لا بد من وجود فاعل مخطط يحدد المعادلات و يدفع بالكون للوجود والتطور.
منذ اكتشاف ما يقارب من عشرين عدد أساسي في الفيزياء الذرية ، تفيدنا المعاينات في علم الفلك وفي فيزياء الكم أن للكون منظومة معقدة ومذهلة. هذه الأرقام التي هي ثوابت كونية ، تصف لنا القيم الفيزيائية وخصائص عالمنا التي لو حدث أي تغير بسيط للغاية فيها لما نشأ الكون. كما تَمَكَّنَّا من تحديد قيم كل هذه الأرقام الأساسية ، مثل قوة الجاذبية وقوة المجال الكهرومغناطيسي … وهذه القيم متوازنة ومنضبطة تماما.
* * *
اليوم بات من الواضح أن قوانين الفيزياء كان لابد أن تكون دقيقة ومحددة جدا للسماح بتطور الكون ونشوء الحياة. فمن المستحيل أن تنسب هذه الدقة البالغة في الشروط الأولية لوجود الكون إلى الصدفة. ومن الواضح أن ثمة إرادة على قدر عال من الذكاء كانت السبب في ضبط هذه الإعدادات. على سبيل المثال إن الدقة في نهاية حقبة بلانك ، لضبط كثافة الكون كانت بنسبة 10-60، وهو ما يعادل دقة نابِلٍ استطاع أن يرمي بسهمه هدفا مساحته 1 سم2 وضع في الجانب الأخر من الكون على بعد 14 مليار سنة ضوئية[10].
{ وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا 49}[11]{ إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ 12 }[12]{ لِيَعۡلَمَ أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ عَدَدَۢا 28}[13]{ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ كِتَٰبٗا 29 }[14]{ لَقَدۡ أَحۡصَىٰهُمۡ وَعَدَّهُمۡ عَدّٗا 94}[15] |
{ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَان 5 }[16] الشمس تبعد عن الأرض بحوالي 150 مليون كيلومتر، القمر يبعد عنها بـ 400000 كلم. إن القمر أصغر من الشمس بأربعمائة مرة ، وهو أقرب للأرض من الشمس بأربعمائة مرة. فحجم القمر وموضعه محكمان بدقة مذهلة لدرجة أنه يخفي الشمس بكاملها خلال الكسوف الكلي. هذه الأبعاد والنسب تعطي انطباعا أن قرصي الشمس والقمر لهما نفس الحجم.
إن الاعتقاد أن نشوء الكون والحياة والبشر نتج عن ضربات متتالية من الحظ هو بمثابة الاعتقاد أنه يمكن الفوز في اليانصيب في كل مرة وفي كل ثانية ، على مدى أربع وعشرين ساعة دون انقطاع لمدة أربعة عشر مليار سنة. إن العجز عن تفسير الإحكام الدقيق لقوانين الفيزياء بمجرد الصدفة أدى ببعض العلماء إلى صياغة نظرية الأوتار أو نظرية الأكوان المتعددة ، أي أن الوجود متعدد الأكوان بما فيها الكون الذي نعيش فيه. ولكل كون من هذه الأكوان قوانين خاصة به. وعليه لا بد أن يكون هناك كون من هذه الأكوان منتظم بالضرورة. حسنا ، إن صح هذا القول فمعنى ذلك أنه من حسن الحظ أو بمحض الصدفة (مرة أخرى ؟) كان الكون المنتظم هو الذي نحيا فيه. سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
الاعتقاد بوجود أكوان أخرى هو من محض التخمين ، فإن لم يكن باستطاعتنا إنكار وجود هذه « الأكوان المتعددة » فليس باستطاعتنا قطعا الجزم بوجودها. ففي الواقع ليس هناك أي دليل علمي على وجودها ، لا عن طريق التنظير ولا عن طريق المشاهدة والرصد ، إنه أمر مستحيل. وعلاوة على ذلك ، فإن هذه الفرضية ، وإن كانت توسع مجال الاحتمالات فهي لا تصل إلى التشكيك في مبدأ الخالق والمنظم الذي تثبته يوميا الأدلة العلمية المتراكمة في جميع المجالات وعلى كل المستويات من العيانية إلى المجهرية. إن نظرية الأوتار/الأكوان المتعددة لا تنقص كمّاً ولا كيفاً من احتمالات وجود المبدأ الأول للوجود.
* * *
سمحت العديد من الخصائص الفيزيائية بظهور الكون والحياة. فإن كانت إحدى هذه القوانين مختلفة قيد أنملة لَما أمكن نشوء الحياة على الشكل الذي نعرفه. فعلى سبيل المثال الكربون الذي يعتبر حجر الأساس للحياة تم تكوينه داخل الأفران النووية للنجوم من خلال عملية دقيقة للغاية. فقد اتضح أن ذلك لم يتم إلا بفضل تأثير الرنين وهو تأثير التقوية الذي يزيد من فعالية العملة ومن كمية الكربون. وهذا الرنين يحدث بفضل الدقة البالغة لقوانين الفيزياء النووية. فلا بد من توافر ظروف ملائمة ومستويات خاصة للطاقة ليحدث هذا التفاعل ويتم ذلك في حيز من الزمن قصير وحساس للغاية ليحصل منتوج وافر من عنصر الكربون.
يمكن القول أن للكون لغة عالمية تتكون من تعليمات رياضية هي أساس قوانين الفيزياء وكل ما هو موجود في هذا الكون. فكل ما يمكن أن نعرفه ونشاهده في هذا العالم يتم من خلال التمكن من هذه اللغة التي تعبّر عن كل شيء. فدراسة السماء والأرض والإنسان والنمل والجزيء والذرة أو أي شيء تسمح بالوقف على هذه اللغة. فهي خاتَم خالق السماوات والأرض وما بينهما.
{ أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ 18}[17]{ وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ 59 }[18] |
إن الكائنات الحية من الأشجار والنبات والأوراق والأزهار والألوان تمتثل هي أيضا وفق آليات لقوانين الطبيعة. لنأخذ معادلة فيبوناتشي مثلا الذي يُحَصَّل بجمع العددين السابقين : 0 + 1 = 1 ، 1 + 1 = 2 ، 1 + 2 = 3 ، 2 + 3 = 5 ، 3 + 5 = 8 ، 5 + 8 = 13 ، 8 + 13 = 21… إنها قاعدة رياضية تظهر في كل شيء في الطبيعة. فأوراق البلوط مثلا تلتف حول قضيب بنسبة 2/5 بالنسبة للسابقة ، وأوراق خشب الزان بنسبة 1/3 ، وأغصان الدردار تنمو على القضيب في منتصف الطريق بعضها من بعض. كما أن عدد بتلات زهرة الأقحوان أيضا تخضع لهذه المعادلة الرياضية…
إذا أردنا أن نلمّ بكل ما يخضع في الطبيعة لهذه القاعدة لاستوجبت كتابته مئات المجلدات الضخمة. فأيًّا ما كان الموضوع يمكننا أن نميز بكل وضوح أن الأمر متعلق ببرنامج تعليمات دقيق يقوم وفق هياكل رياضية تسير بكمال وقصد منذ بداية الخلق. فكل شيء وكل نفس صغيرا كان أم كبيرا ، يخضع لهذا التصميم وبالتالي للأصل الذي وضع هذا التصميم.
{ وَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ 163 إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ 164 }[19]{ أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ ثَمَرَٰتٖ مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهَاۚ وَمِنَ ٱلۡجِبَالِ جُدَدُۢ بِيضٞ وَحُمۡرٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٞ 27 وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ 28 }[20] |
* * *
يتكون جزيء الحامض النووي(DNA) من خيطين مجدولين مع بعضهما على شكل لولبي. وجميع المعلومات والخصائص البدنية والفسيولوجية لكائن حي مشفرة في الوحدات البنائية ، الجينات من الحلزون المزدوج مطوية داخل الكروموسومات في نواة الخلية. تتشكل جدائل الحمض النووي عن طريق سلسلة من النيوكليوتيدات التي تتألف من ثلاثة عناصر وهي السكر(desoxypentose) ومجموعة فوسفات واحدة أو أكثر وقاعدة نيتروجينية.
إن مخزون المعلومات الوراثية والخصائص الجينية للكائنات الحية تتشكل من اتحاد مثاني أربعة أنواع من جزيئات النيكليوتيد والتي تكون سلسلة متصلة من هذه الجزيئات والتي تعتبر قاعدة بيانات بحد ذاتها تماثل تماما « الشيفرة المصدرية ».
وكما أن شفيرة المورس المكوّنة من ثلاثة عناصر (النقطة والواصلة والفرجة) تشكل الحروف ومنها الكلمات ومنها الجمل فإن القواعد الأربع التي تُكَوِّن الحامض النووي تندمج فيما بينها لتشكل اثنان وعشرين حمضا أمينيا هي اللبنات الرئيسية لبناء ما يقارب مائة ألف بروتينا. كل هذا يشير إلى لغة قد بدأ المختصون في علوم الأحياء الكشف عنها. فالمعلومات المضمّنة في الحامض النووي لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة وإلا ما هو مصدر المعلومات الموجودة في الصحف والكتب والأقراص المدمجة أو الصلبة ؟
يحتوي جسم الإنسان على أكثر من خمسين ألف مليار من الخلايا ، تعمل كل واحدة منها بمفردها وبالتنسيق مع الخلايا الأخرى بلا انقطاع وعلى مدى أربع وعشرين ساعة. إن حجم الخلية لا يتعدى 1/100 مليمتر، وهي تحتوي على ثلاث مليارات من نيكلوتيدات داخل مترين مكثفين من الحامض النووي.
تحتوي نواة الخلية على الجينات والجينوم الذي يتضمن المعلومات التي تعطي تعليمات للخلية نفسها وللأجهزة والجسم كله لأداء وظائفه. فثمة إذاً سجل للمعلومات يحتوي على إرشادات دقيقة في الجينوم لكل نواة خلية ، وهو ما يعادل نحو تسع مئة وخمسين مجلدا كل منها يتألف من خمسمائة صفحة من المعلومات المشفرة تملي على الخلية مهامها. في هذه الحالة لكي تسلك الخلايا مثل هذا السلوك المنطقي لابد من إرادة واعية وذكية ، كما لابد لأي برنامج من مخطط ، فمن المسؤول عن ذلك ، الصدفة ؟ الزمن ؟ التطور؟
إن إلقاء الحبر بطريقة عشوائية على صفحات بيضاء لبلايين السنين لن يخلق فقرة ولا جملة ولا كلمة بل ولا حرفا واحدا ، ناهيك عن موسوعة من المعلومات الوافية والتعليمات الدقيقة التي تحتويتها الخلية.
الخلية الحية أكثر تعقيداً وكفاءة من أي مدينة على وجه المعمورة. لاسيما إذا تصورنا أن مدينة ما تتكرر بشكل مماثل في غضون بضع ساعات كل يوم ، كما هو الحال في الخلية. في عصرنا الحاضر لا يستطيع العلماء تركيب جزء من خلية حتى في أعظم المختبرات وأكثرها تقدماً. إن لكل خلية غشاء حام يتوفر على مداخل ، عليه حراس يتكونون من بروتينات وإنزيمات معينة مهمّتهم حراسة المداخل ؛ فلا يسمحون بالدخول إلا لأنواع معينة من المواد الكيميائية. وفي الخلية شبكة مواصلات ممتازة لها أنظمة خاصة لتوجيه ونقل المواد المسموح لها بالدخول إلى أن توصلها بدقة إلى وجهتها التي يجب أن تبلغها. وتحتوي كل خلية على ما يسمى بالميتوكوندريا التي تعمل على توفير الطاقة للخلية. ففي كل خلية وحدات إنتاج البروتين والريبوسومات ولكي لا يكون هناك أي خلل أثناء عملية النقل يتم حمل هذه البروتينات في حزم صغيرة مغلَفة. حين يصل البروتين إلى مكان عمله تعمل وحدات كيميائية على تفريغه ليأخذ دوره ووظيفته. أضف إلى ذلك أن في كل خلية ، باستثناء خلايا الدم الحمراء ، عضيات تدعى اليَحْلُول يحيط بها غشاء وتحتوي على أنزيمات هاضمة تتخلص من كل النفايات الضارة في الخلية حتى لا تتراكم بداخلها.
فمن يقف وراء هذا الخلق وهذا التنظيم ؟
{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ 73 مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ 74 }[21] |
ولنأتي إلى الحديث عن البروتين ، عمد العلماء[22] لقياس احتمالية تكوين بروتين وظيفي بسيط بالصدفة ، يبلغ طوله مئة وتسعة وأربعون من الأحماض. فالحصول على تسلسل وظيفي من الأحماض الأمينية يشترط فرصة واحدة في 1074. ولتشكيل جزيء بروتين يجب أن ترتبط الأحماض الأمينية معا بروابط ببتيدية وثمة فرصة من اثنتين من كل جانب ليحدث هذا الارتباط ، كما أنه لا يقع بشكل منتظم. إذاً فرصة من اثنتين حوالي أس 149 ، وللتبسيط 150، أي ما يعادل فرصة واحدة في 1045. والحامض الأميني يتطلب نسخة يمينية التناظر أو نسخة يسارية التناظر ، إلا أن النسخة اليسارية التناظر هي الوحيدة التي يمكنها تكوين البروتين أي ما يوافق فرصة واحدة من اثنتين. المجموع عن طريق جمع الأسس : 1074 × 1045 × 1045 = فرصة واحدة في 10164.
ليمكن تصور هذا الأمر يجب مقابلته بالحقائق التالية :
-
مضى على الانفجار الكبير 1016 ثانية فقط.
-
عدد الذرات الموجودة في الكون كله 1080.
-
جميع الأحداث منذ بداية الكون هي 10139.
{ ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ 2 ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ 3 }[23]{ وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ 12 ثُمَّ جَعَلۡنَٰهُ نُطۡفَةٗ فِي قَرَارٖ مَّكِينٖ 13 ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ 14 ثُمَّ إِنَّكُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ 15 ثُمَّ إِنَّكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ تُبۡعَثُونَ 16 }[24] |
طالما كان الاعتقاد السائد هو أن الخلية هي الوحدة الأساسية وأنها بسيطة وليست معقدة وغير فعّالة ، يمكن للمرء أن يتصور أنها نشأت بشكل طوعي وعفوي وأن ثمة تطور عفوي للكائن وحيد الخلية إلى الكائنات متعددة الخلايا أكثر تعقيدا. ولكن اليوم ، نكتشف المزيد من تعقيد الفعالية للخلية الواحدة. فحتى الكائن الحي وحيد الخلية له قدرات معقدة للغاية.
فالمواد المستخدمة لصنع باب أو نافذة أو خزانة إلخ … يمكن أن تكون هي نفسها ، لكن الخطة والغرض والتنفيد يكون مختلفا والنتيجة أيضا. ويتميز الإنسان بالذكاء عن غيره من الكائنات التي تعيش على الأرض. ولئن كان يشترك مع بعض الكائنات الحية كالقردة والذباب والدودة في العديد من المميزات والقدرات إلا أن ذلك لا يغير من خصوصية الإنسان ولا يمكن بأية حال من الأحوال أن يكون هذا من قبيل الصدفة أو نتيجة مجرد تطور إذا كان هناك تطور { هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡٔٗا مَّذۡكُورًا 1 }[25] ، فكل كائن حي يتطور إلا أن نظرية التطور كما تم فهمها إلى الآن لا بد أن تُرَاجَع.
* * *
كل شيء في الوجود له علة ، فللكون بداية ، والله هو السبب الأول. خلق وحدد جميع شروط الوجود. ولكل حدث سبب. ولكل سبب سبب آخر يمكننا تفسيره منطقيًا ، فما هو سبب المسبب الأول ؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال لنتساءل : يا تُرى إن أردنا معرفة سبب حقيقة ما ، هل يشترط معرفة سبب ذلك السبب الذي نسعى إلى معرفته ؟ لا حاجة لإيجاد هذا السبب. على سبيل المثال ، لمعرفة أن الخبز قد قام بتحضيره خباز ، لا يشترط أن نعرف من أين صدر الخباز. وإن اشتُرِطَ ذلك فمعنى هذا أننا لن نتوصل لمعرفة أن الخباز هو الذي حضَّر الخبز ما لم نعرف من أين صدر الخباز. ورغم ذلك يبقى السؤال شرعيا في كون كل شيء له سبب لكنه ليس شرطا.
والآن ، دعونا نتذكر أنه قبل خلق الكون لم يكن هناك وجود للفضاء ولا للزمن ولا للمادة… قبل أن يكون أي شيء ، ثمة حيث لا وجود لشيء من الكون الذي نعرفه ، فإن السبب الأول لا يخضع للمادة ولا للزمان ولا للمكان ولا لأي شيء آخر. والسبب الأول لم ينشأ من سواه بما أن لا شيء قبله. فهو موجود بذاته ، قيوم بذاته ، غني بذاته. هذا هو في نهاية المطاف المبدأ الأول ، الصمد ، القادر ، العليم ، الحي ، الأول والآخر.
* * *
كل الرسل والأنبياء عليهم السلام بعثوا بالمعجزات وكان أقوامهم شهداء عليها. إن موسى u شق البحر بعصاه وبنو إسرائيل كانوا على ذلك شاهدين ، وعيسى u كان يشفي الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله وكان قومه على ذلك شاهدين. أما نحن فلم نشهد هذه المعجزات الفانية ولم يبق منها إلا الخبر عنها وليس لنا دليل قاطع على حدوثها. أما معجزة محمدﷺ، القرآن الكريم ، فهي تتميز عن سائر المعجزات بأنها معجزة المعجزات التي حدثت بالأمس ولا تزال اليوم وهي مستمرة وباقية ، شَهِدتها الأجيال السابقة وسوف تشهدها الأجيال القادمة. فكل الأديان تزعم أن كتبها المقدسة صادقة وبالتالي معجزة ، في حين أن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يصف نفسه بكونه هو المعجزة.
{ قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا 88 وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا 89 }[26]{ لَوۡ أَنزَلۡنَا هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ عَلَىٰ جَبَلٖ لَّرَأَيۡتَهُۥ خَٰشِعٗا مُّتَصَدِّعٗا مِّنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ 21 هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۖ هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ 22 هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡقُدُّوسُ ٱلسَّلَٰمُ ٱلۡمُؤۡمِنُ ٱلۡمُهَيۡمِنُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡجَبَّارُ ٱلۡمُتَكَبِّرُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشۡرِكُونَ 23 هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ 24 }[27] |
الإسلام هو أول وآخر الأديان السماوية ، للبشرية جمعاء ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. يقوم على شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. فهو بذلك دين الإِخلاص ، دين التوحيد الخالص ، لا يضعف أمام أي عائق ، بل ينتشر ويتقدم في كل أنحاء العالم ؛ وهو يتوسع بقوة الحجة والمنطق ليعمّ جميع الشعوب بمختلف تنوعاتها الوطنية والعرقية والاجتماعية والثقافية. وإن تجاهل هذا الواقع والتغاضي عنه ينمان عن عدم المسؤولية إذ يفتح بشكل خطير ، وعلى حساب رسالة الإسلام الأصلية ، جميع أبواب الإنحرافات الفكرية والأيديولوجية النابعة من المعتقدات التقليدية.
إذا دخل الإنسان بيتا فإنه يرى ويعترف أن الجدران قد بناها بنَّاء ، والأبواب والنوافذ صنعها نجار، وأن الأسلاك الكهربائية قد وضعها سباك… فهل يعقل أن هذا البيت يكون قد صنع نفسه بنفسه ؟
إن ثمة نظاماً كونيا عظيما يجري على كل شيء في الوجود على مستوى الكم أو في نطاق الفلكية والقوانين ، في مجال الطاقة والمادة والجسيمات والذرة والجزيء والخلية والكواكب والنجوم والمجرة… الكون وحدة متماسكة ومتسقة تدل على خالق ذي قدرة متناهية في التصميم والإبداع والخلق ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فقد علمنا أن ما من شيء في الكون إلا وقد أذعن لله سبحانه وتعالى ، فهو يسير بموجب القوانين والنظم السائدة في الطبيعة. فالعلم الحديث قد بدأ بـ « لا إله »، ليستكمل الجزء الأول من شهادة المسلم « لا إله إلا الله وحده لا شريك له ». وأخيرا ، أثبت العلم الحديث الشق الثاني من الشهادة ، أي أن السماوات والأرض وكل ما فيها مسلم منقاد إلى الله طوعا أو كرها.
{ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ 18 إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ 19 }[28]{ أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ 83 قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ 84 وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ 85 }[29]{ فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ كَذَٰلِكَ يَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ 125 }[30] |
* * *
ليس هذا العرض إلا غيض من فيض من الأدلة على وجود الله. وباستطاعة أيّا كان التحقق من ذلك ولو أن حياة امرئ كلها لا تكفي لإحصاء هذه الدلائل الباهرة والإحاطة بها. فوجود الله لم يعد لغزا ، تخمينا أو حدسا. أصبح الإيمان أكثر من أي وقت مضى ينبع من المعرفة الموضوعية للوجود. فهو إيمان يتّسم بالطمأنينة والثبات والكمال ، آمِن من هزات المزاج والنوازل. ومن ثمرات هذا الإيمان أنه لا يثير الأهواء ولا يستفز مشاعر الكره والعداوة والعنف بل يدعو للسلم والسلام.
[1] سورة فصلت ، الآية : 52-53-54.
[2] حيث يخضع الطيف الكهرومغناطيسي لدرجة الحرارة فقط.
[3] الإشعاع الكهرومغناطيسي
[4] سورة الأنبياء ، الآية 30.
[5] سورة الذاريات ، الآية 47.
[6] سورة فصلت ، الآية 11.
[7] سورة يس ، الآية 40.
[8] وأشهرهم ستيفين هاوكينغ.
[9] حتى على مستوى الكم يمكن ملاحظة التماثلات. وهكذا فإن تصرف سلاسل الذرات مثل وتر الغيتارة على مقياس النانو يُحدِث سلسلة من النغمات التي يتردد صداها. وملاحظة النغمتين الأولى والثانية تثبت علاقة كاملة بينهما ، ونسبة تردداتهما تساوي 1،618. انظر إيان أفليك ، « النسبة الذهبية المرئية في المغناطيس »، مجلة الطبيعة ، عدد 464 ، ص 362-363 (2010) ، ر. كولديا ، د. أ. تينانت ، إ.م. ويلر ، أ. وارزنسكا ، د. برابهكران ، م. تلينغ ، ك. هابيش ، ب. سميبيلد ، ك. كيفر: حرجية الكم في سلسلة إيزينغ : الأدلة التجريبية من ظهور التماثل E8 » ، مجلة علوم ، 8 يناير 2010.
» …Cf. Affleck, I., “Golden ratio seen in a magnet”, Nature 464, 362-363 (2010), R. Coldea, D. A. Tennant, E. M. Wheeler, E. Wawrzynska, D. Prabhakaran, M. Telling, K. Habicht, P. Smeibidl, K. Kiefer. « Quantum Criticality in an Ising Chain: Experimental Evidence for Emergent E8 Symmetry ». Science (Jan. 8, 2010)
[10] ترينه كزويان توان (Trinh Xuan Thuan).
[11] سورة الكهف ، الآية 49.
[12] سورة يس ، الآية 12.
[13] سورة الجن ، الآية 28.
[14] سورة النبأ ، الآية 29.
[15] سورة مريم ، الآية 94.
[16] سورة الرحمن ، الآية 5.
[17] سورة الحج ، الآية 18.
[18] سورة الأنعام ، الآية 59.
[19] سورة البقرة ، الآية 163-164.
[20] سورة فاطر ، الآية 27-28.
[21] سورة الحج ، الآية 73-74.
[22] أنظر أبحاث : Stephen C. Meyer, Francis Crick, Stanley Miller, Leslie Orgel.
[23] سورة العلق ، الآية 1-3.
[24] سورة المؤمنون ، الآية 12-16.
[25] سورة الانسان ، الآية 1.
[26] سورة الإسراء ، الآية 88-89.
[27] سورة الحشر ، الآية 21-24.
[28] سورة آل عمران ، الآية 18-19.
[29] سورة آل عمران ، الآية 83-85.
[30] سورة الأنعام ، الآية 125.