تحلـيـل لغـوي لألـفـاظ الـبسـمـلـة

فريد قبطاني

أوّل ما نقرأ من كلام الله عندما نفتح القرآن الكريم هو « بسم الله الرحمن الرحيم ».

وسبب وجود هذه العبارة التي تسمّى « البسملة » اختصاراً هو التذكير بأنّ ما من شيء إلاّ وباسم الله بدايته ووجوده. ولهذا فإنّ المسلمين ينطقون بهذه العبارة عند مبادرتهم لأيّ عمل ؛ فباسم الله يبدأ المسلم كلّ شيء.

البسملـة :

البسملة مكوّنة من أربع كلمات هي على التوالي : بسم ، الله ، الرحمن ، الرحيم.

  • « بسم » و « باسم » بمعنى واحد. وهذه الكلمة تكتب عادة بالألف أي « باسم ». وكتابتها بدون ألف استثناء من جهة وخاصّة بالله تعالى من جهة أخـرى فلا تكتب بدون ألـف حين تكـون متبوعة بغير اسم الله.

  • « الله » اسم الجلالة ، وهذه اللفظة حسب اللغويين قد حصّل عليها بحذف الألف الثانية في « الإلاه » وإدغام اللام الأولى في الثانية.

  • أمّا لفظة « الرحمن » و « الرحيم » فهما اسمان من أسماء الله الحسنى. كما أنهما مشتقان من مادة واحدة وهي « ر – ح – م ».

وهذا الاشتقاق يؤكد على مفهوم « الأصل » الذي نستشفه من خلال جميع الكلمات المشتقة من الحروف الثلاثة « ر – ح – م ». والتحليل اللغوي التالي يوضّح ذلك.

فلفظـة « الرحمـن » في العربيّة مشتقّة من « الرحم ». و « الرحم » نظرا لطبيعته ووظيفته هو أصلٌ لشيءٍ ما ، وبالتالي يولّد مفهوم « الرحمة » كمثل رحمة الأمّ بمن حملت في رحمها ، ومن اللائق هنا أن نذكر بأنّ من معاني كلمة « الأمّ » في العربيّة : « الأصل ».

أما لفظة « الرحيم » فرغم كونها تتضمّن مفهوم « العطف » لاشتراكها في المادة مع كلمة « رحمة » إلاّ أنّ رحمة الله سبحانه وتعالى وسعت كلّ شيء فهي ليست كرحمة البشر. فليس لها أن تكون عاطفيّة وبالتالي اندفاعيّة كرحمة البشر. إنّها رحمة متّسمة بالحكمة والعلم. والدليل على ذلك قوله تعـــالــــى { (…) وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ  (…) 156 }[1] فــمـــا حـاجــــــــــة الجماد مثلا إلى الرأفة والرحمة إن كانت لفظة « رحيم » تعني « ذو الرحمة » من نوع رحمة البشر ؟ وبناء على ذلك فهي رحمة من طبيعة أخرى من حيث أنّها رحمة الله مُثبِت كلّ شيء ومنظّم كلّ شيء ومحكم كلّ شيء. وهذه الرحمة بطبيعة الحال تتضمّن مفهوم العطف والرأفة بخصوص الدواب والبشر ولا سيما بخصوص المؤمنين.

اشتقاق الكلمـة :

إنّ كلمتي « الرحمن » و « الرحيم » مشتقّتان من « الرحمة » وهي المصدر. فمادّة الكلمة هي « ر ح م » وفعلها « رحم ». واسم الفاعل فيها هو « الراحم » وإذا تحلى بالمبالغة قيل « الرحمن » و « الرحيم ».

فلفظة « الرحمن » التي تنطق « الرحمان » مبنيّة على وزن « فَعْلاَن ». وهذا الوزن ، أي زيادة ألف مدّ ونون في آخر مادّة كلمة ثلاثيّة يدلّ على الكثرة والتأكيد والمبالغة.

أمّا لفظة « رحيـم » فهي مبنيّة على وزن « فعيل » ، وهذا الوزن ، أي زيادة ياء المدّ بين الحرف الثاني (ح) والثالث (م) من المادة يدلّ على التمييز والمبالغة أي أنّ صاحبه يتميّز بتلك الصفة لدرجة أنّها أصبحت غالبة عليه ومثل ذلك الحكيم والعليم والسميع والحفيظ.

التحليل اللغـوي للقدماء :

ما نجده في كتب اللغة والتفسير هو أنّ لفظتي « الرحمن » و « الرحيم » صيغتان لكلمة واحدة. فلفظة « الرحمن » المبنيّة على وزن « فَعْلاَن » أكبر وأبلغ وأعمّ من لفظة « الرحيم » المبنيّة على وزن « فعيل ». لذلك ذهب بعضهم إلى أنّ ذِكْر لفظة « الرحيم » بعد لفظة « الرحمن » في البسملة يُقصَد به التخصيص.

فجيء بلفظة « الرحيم » بعد لفظة « الرحمن » بعد استغراق لفظة « الرحمن » معنى « الرحمة ». فلئن كان الله هو « الرحمن » بكلّ العباد فإنّه « رحيم » بالمؤمنين فقط. والمثال الذي يورده القدماء لتأييد هذا القول هو قوله تعالى :

{ ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ 2 }

ففي هذا المثال نرى أنّ لفظة « خلق » قد تكرّرت بغية التخصيص. وبناءً على هذا فإنّ لفظة « الرحمن » تعني « ذو الرحمة التي لا غاية بعدها في الرحمة لأنّ فعلان بناء من أبنية المبالغة » أكثر من « فعيل ». فهذا التحليل أعطى لفظة « الرحيم » حين تبِعت « الرحمن » دور التخصيص أي خاصة بالمؤمنين فقط.

تحليل القدماء في الميزان :

إنّ هذا التحليل للفظتي « الرحمن » و « الرحيم » مبنيّ على هفوتين أدّيتا إلى فهم خاطئ.

الهفوة الأولى : هي الاعتقاد بأنّ كلمة « الرحيم » حين تستعمل بعد كلمة « الرحمن » يقصد بها « التخصيص » في حين أنّ لفظة « الرحيم » غير لفظة « الرحمن » وذلك بطبيعة الحال لاختلاف بناءهما.

فالتخصيص يكون باستعمال الكلمة نفسها لا باستعمال غيرها ولا أدلّ على ذلك من المثال المضروب أعلاه « خلق » :

{ ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ 2 }

ولنا في السورة 96 نفسها (العلق) مثال آخر يبين كيف يكون التخصيـص وهو لفظة « ناصية » في الآية 15 و 16 :

{ كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ 15 نَاصِيَةٖ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٖ 16 }

هذا هو التخصيص. أما القول بالتخصيص في كلمتين ذواتي بنائين مختلفين فلا أصل له.

ثمّ إنّ القـول بأنّ الله « ذو رحمة مطلقة بكلّ المخلوقات » لكنّه « ذو رحمة خاصة بالمؤمنين » قول متناقض ، إذ أنّ مفهوم الرحمة المطلقة يتعارض مع مفهوم الرحمة الخاصة :

ومن ناحية أخرى فإنّ مَن ذهب إلى معنى التخصيص قال : إنّ الله « رحمن » بكلّ الناس لكنّه « رحيم » بالمؤمنين فقط. فالقرآن نفسه وهو كلام الله يناقض هذا الادعاء ؛ إذ ليس للقول بكون الله « رحيم » بالمؤمنين فقط أصل ولا أثر في القرآن. فلئن نجد في القرآن بعض الآيات التي تنص على أن الله رحيم بالمؤمنين فإن فيه آيات أخرى تنص صراحة أن الله رحيم بالناس أيضا. من ذلك قوله تعالى في الآية 143 من السورة 2 (البقرة) :

{ (…) إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ 143 }

والعبارة نفسها واردة في الآية 65 من السورة 22 (الحجّ) :

{ (…) إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ  65 }

إضافة إلى ذلك نقرأ في الآية 24 من السورة 33 (الأحزاب) قوله تعالى :

{ لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا 24 }

الهفوة الثانية : من الصواب أنّ نقول أنّ كلمتي « الرحمن » و « الرحيم » مشتقّتان من كلمة « الرحمة » بمعنى الرقة والتعطف والإحسان والرزق. لكن ليس من الصواب أن نقف هنا. بل علينا أن نصل إلى الكلمة التي اشتقّت منها كلمة « الرحمة » وهي « الرحم ». فالبحث في معنى كلمة في اللغة العربية يبدأ بالبحث في أصلها ومادتها.

فاستعمال لفظتين مختلفتين في البسملة لابدّ أن يكون له قصد معيّن وحكمة لازمة.

وكلمة « الرحم » تعني وعاء في بطن الأم تنبت به البويضة الملقّحة إلى أن يتمّ تكوّن الجنين. وجمعه « أرحام ». فالرحم للإنسان هو منبته ، أي المكان الذي تكوّنت فيه حياته ؛ وبالتالي الأصل الذي أتى منه.

 1-« الـرحـمـن » :

إنّ كلمة « الرحمن » المبنيّة على وزن « فعلان » والمشتقّة من كلمة « رحم » تتضمّن معنى « الرحم » بتأكيد وكثرة ومبالغة لتدلّ بذلك على الأصل الأوّل والمطلق أو أصل الأصول مطلقاً أي « أرحم الرحمين »[2]. زيادة على هذا فإنّ مفهوم العطف والحنان والإحكام والتنظيم الموجود في الرحمة مضمّن كذلك في لفظة « الرحمن » نظرا للعلاقة بين الشيء وأصله.

إضافة إلى ذلك فإن كلمة « الرحمن » لم تستعمل في القرآن بكيفيّة تؤيّد موقف القائلين بأنّ لفظة « الرحمن » تعبّر عن مفهوم العطف والحنان لكونها تعني « ذو الرحمة التي لا غاية بعدها في الرحمة لأنّ فعلان بناء من أبنية المبالغة ». فالقرآن قاموس نفسه وحين نتفحّصه ونطّلع على سياق الآيـات التي ذكر فيها لفظ الجلالة « الرحمـن » يتأكّد لنا أنّه لا علاقة مباشرة بين كلمة « الرحمن » ومفهوم « الرحمة » بمعنى العطف والإحسان[3] بل جاءت بمعنى الله ، الأصل ، السبب الأول.

والعلاقة بين لفظة « الرحم » ولفظة « الرحمن » وطيدة جدّاً لدرجة أنّ حديثا قدسيّا[4] يثبت العلاقة السببيّة المتينة الموجودة بينهما نهائيّا :

« قال الله تبارك وتعالى : أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته »[5].

بهذا الحديث القدسي نرى أنّ « الرحم » و « الرحمن » من اشتقاق واحد.

إن القرآن كله يثبت أن كلمة « الرحمن » تختلف عن باقي أسماء الله الحسنى ابتداء من قول الله سبحانه وتعالى :

{ قُلِ ٱدۡعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُواْ ٱلرَّحۡمَٰنَۖ أَيّٗا مَّا تَدۡعُواْ فَلَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ  (…) 110 } [6]

إن هذه الآية هي أهمّ حجة يحتج بها في القول بأنّ لفظة « الرحمن » لا يجوز استعمالها لغير الله ، فلم يستعمل الله سبحانه وتعالى لدعائه غير هذين الاسمين. وهذا يدل على أنّ الله عادَلَ بلفظةِ « الرحمن » الاسمَ الذي لا يشركه فيه أحد وهو « الله ». وزيادة على هذا فإن هذه اللفظة لا يوصف بها بشر على الإطلاق لذلك فهي لا تستعمل بدون ألف ولام التعريف.

وأخيرا بشأن هذه اللفظة لم يكن عرب الجاهلية يفقهون أو يدركون معناها الحقيقي والدليل على ذلك الآية التالية : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [7]. والآية التي قبلها تشير إلى أن الرحمن هو السبب الأصلي للخلق : { الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } [8]

 2-« الـرحـيـم » :

إن لفظة « الرحيم » مستعملة عادة في القرآن في سياق الرقة والتعطف والإحسان وعادة ما تكون مصحوبة بلفظة « رءوف ».

لقد رأينا أعلاه أنّ لفظة « الرحيم » مشتقة من لفظة « رحمة » ، وأنّ هذه نفسها مشتقّة من لفظة « رحم ». كما رأينا أنّ لفظة « الرحيم » المبنية على وزن « فعيل » تؤدّي مفهوم التمييز والمبالغة. فالموصوف بها يتميّز بها لدرجة أنّه سمي بها.

ولفظة « الرحيم » تتضمن مفهوم الرقّة والرأفة والتعطّف والإحسان كرأفة الأمّ بمن حملت في رحمها تسعة (9) أشهر.

وخلافا للفظة « الرحمن » فإنّ لفظة « رحيم » تستعمل أيضا لوصـف البشر شريطة أن تكون نكرة أي بدون ألف ولام التعريف.

والمثال القرآني الذي يؤيّد ذلك هو الآية 128 من السورة 9 (التوبة) حيث وردت هذه الكلمة للمرّة الوحيدة في القرآن صفة للرسول ﷺ [9].

{ (…) لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ 128 }

فلفظة « رحيم » في هذه الآية مقترنة بالرسول ﷺ وهي خاصّة بالمؤمنين ، فهنا يظهر بوضوح أنّ المقصود منها هو الرقّة والرأفة والتعطّف والإحسان.

فالله « الـرحــمـــن » هو « الرحــيـــم » مــطــــلقــــا : { هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ (…) 6 }[10]. وهو الذي ليست رحمته عاطفيّة ولا اندفاعيّة كرحمة البشر ، بل هي مطبوعة بالحكمة والمعرفة.

فهكذا إذاً يتجلّى المعنى المنفرد والمتكامل للأسماء المذكورة في البسملة.

 

 

[1] سورة الأعراف ، الآية 156.

[2] سورة الأعراف ، الآية 151.

[3] أنظر الملحق رقم 5 : لفظ الجلالة "الرحمن" في القرآن.

[4] تعريف الحديث القدسي : إنّ مضمون القرآن وشكله من عند الله. أمّا مضمون الحديث وشكله فهو من عند البشر أي كلام محمد ﷺ. أمّا شكل الحديث القدسيّ فهو كلام نطق به الرسول (عليه السلام) لكن مضمونه إلهي كالقرآن.

[5] الترمذي ، سنن الترمذي ، كتاب البرّ والصلة. وأحمد ، مسند أحمد ، مسند العشـرة المبشّرين بالجنّة. وأبو داود ، سنن أبي داود ، كتاب الزكاة.

[6] سورة الإسراء ، الآية 110.

[7] سورة الفرقان ، الآية 60.

[8] سورة الفرقان ، الآية 59.

[9] إنّها المرّة التاسعة لورود لفظة "رحيم" في السورة 9. إن مدة الحمل لدى الإنسان 9 أشهر ، والشهر التاسع (9) مميز عن غيره بكونه شهر الولادة.

[10] سورة آل عمران ، الآية 6.

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لمؤسسة حفظ و نشر أعمال السيد فريد قبطاني