رسالة الإسلام الأصلية 1

 

فريد قبطاني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

« … رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)  وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)  يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) »
س 20 (طه).

« … رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) »
س 17 (الإسراء).

أعرض في هذه المقالة من سلسلة خمس مقالات فحوى رسالة الإسلام الأصلية. هذه المقالات حول القرآن الكريم هي خلاصة أبحاثي وقد انتهت بي إلى الكشف أو بالأحرى إعادة اكتشاف « الرسالة الأصلية للإسلام ».

بدءاً أذكر بأن أبحاثي لقيت ترحيبا ودعما من أهل الاختصاص وإن كان بعض من المسلمين التقليديين أعربوا عن تحفظهم إزاء بعض « الاستنتاجات » التي خلصت إليها. وفي الحقيقة إني أعتبر النتائج المستفادة من هذه البحوث دروسا.

لابد من التنويه أيضا على أن بحوثي تقوم على الملاحظات الموضوعية والأدلة. وكلها تفضي إلى أن التيار التقليدي للمسلمين اختلق ورسّخ موروثا ثقافيا شموليا وظلاميا لا صلة له بالدين الحق والإسلام الأصلي. لذا أدعو وأعمل على تفنيد تقديس الموروث الديني التقليدي الذي أُسِّس دينا بديلا بعد النبي محمد عليه السلام.

إنه لمن واجب النخبة من العلماء المسلمين ، وهو أسمى واجب ، استنكار ونقض الموروث الديني الزائف والمقدس والمهيمن وعليهم تقويض إيديولوجية عصمة هذا الموروث التقليدي بشدة.

هذا لا يعني نبذ كل شيء جملة وتفصيلا كما يفعل بعضهم للأسف عند التعامل مع هذا الموروث. إذ ينتهي الأمر بهم إلى الخلط بين التقليد وصلب الدين والإيمان. فهؤلاء عموما ضعافُ ، فُتِنوا في عقيدتهم فضَلُّوا السبيل. الأجدى استحضار مقولة لويس باستور : « قليل من العلم يبعد عن الله ، لكن كثيرا من العلم يقرّب منه ».

يتطلب خوض غمار معرفة الإسلام الأصيل العمل والمثابرة بصبر وبإصرار وأن نضع نصب أعيننا قوله تعالى في الآية 99 من السورة 15 (الحجر) : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } ، أي اليقين بأن الإخلاص والوفاء للوحي الذي تلقاه رسل الله محمد وعيسى بن مريم وموسى وغيرهم عليهم السلام هو الإسلام الأصلي كما جاء به القرآن الكريم.

كما أتوجه بخطابي إلى المسلمين فإني أتوجّه به بإلحاح أكبر إلى غير المسلمين أيضا ؛ من أجل التمييز بين الحق وبين الباطل ، والتفريق بين الإسلام الأصلي وبين الإسلام المحرَّف الذي يُستغَل لغايات بعيدة عن مرضاة الله.

إن المتطرفين من أهل التقليد يصدون عن أعمالي ويعرضون عنها لأنها تُقوِّض وتُفكّك علميًا منظومتهم الظلامية والرجعية.

وجاء في الذكر الحكيم قوله تعالى في الآية 78 من السورة 43 (الزخرف) :

{ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }.

ناهيك عن أعداء الإسلام الذين تزعجهم مؤلفاتي لأنها في نظرهم تستقطب وتشجع الكثير على اعتناق الإسلام.

جاء في الآية 32 من الفصل 8 من إنجيل يوحنا : « وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ ».

لقد درست القرآن الكريم والحديث والسنة والسيرة وعلم الكلام والفقه عند العلماء وأهل الاختصاص الذين هم العمدة عند أهل التقليد. وبالتالي كانت نظرتي في مرحلة من حياتي تقليدية ولكن معتدلة. ولما تخصصت ودرست علم التاريخ حينئذ تفرغت لدراسة القرآن معتمدا على المنهج العلمي ، مستعينا بتخصصات متعددة.

كلما تعمقت في البحث بدا لي التضارب الصريح بين رسالة الاسلام الأصلية في القرآن الكريم وبين الكثير من مضمون الخطاب الديني الذي يحظى بالدعم والترويج ، إذ أن هذه المفتريات ، التي أنتجت لاحقا أي بعد اكتمال الوحي وبعد وفاة الرسول محمد عليه السلام ، أصبحت اللّبنة الأساس للعقيدة التقليدية المخالفة للمقاصد التي جاء بها الإسلام.

وكلمة « الإسلام » لغة من مادة « س – ل – م » والتي منها « سِلم » أصغر كلمة ؛ فمفهوم الإسلام مشتق من السلم والسلام لفظاً ومعنى. وعليه فالإسلام هو تحقيق السلم والسكينة وإقامة السلام واستعادته وصيانته. إنه الخضوع لله بسلام. فالإسلام هو تفعيل وتثبيت للسلام والكلمة المناسبة لهذا المفهوم في الفرنسية هي « pacification ». فمن يسلم نفسه لله يدخل في السلم ويكبح جماح التمرد والعصيان في نفسه ومن حوله فهو مسلم « pacifié » ومسالم « pacifiste » يجنح إلى الهدوء والأمن والطمأنينة ، خال من الصراعات والنزاع ؛ فيصبح قلبه سليما صالحا ويكون في حالة سلام مع الله ومع خلقه.

إن ظروف ظهور الإسلام شبيهة بظروف زمننا هذا. فكما في أيامنا ، كانت هناك قوى متنازعة تهيمن على العالم في القرن السابع وهي الإمبراطورية البيزنطية والفارسية.

وكانت هناك حضارات أخرى قائمة في الصين والهند والحضارة ما قبل الكولومبية ، وكانت ثمة أمم غنية وأخرى فقيرة. كما كانت هناك قبائل وأقوام تعيش عيشة بدائية منذ أمد بعيد كالمجتمعات التي لا زالت تعيش اليوم على هامش الحضارة.

أما قبائل الجزيرة العربية فقد كانت حياتهم الفكرية ومعتقداتهم الدينية آنذاك محدودة وبدائية مقارنة بنظيراتها في الأديان السائدة آنذاك سواء تلك التي تؤمن بإله واحد أو بتعدد الآلهة.

وكانت الوثنية والشرك وعبادة الأصنام منتشرة في معظم القبائل العربية لدرجة أن الأصنام التي كانت تمثل الآلهة أصبحت هي نفسها آلهة. وإن كان بعض الوثنيين العرب يؤمنون بإله فوق الآلهة أو رب الأرباب إلا أن ربوبية هذا الإله لم تكن أولى من ربوبية غيره من الآلهة الصغرى بل وقد تنافسه في عدة مواقف وتُعبد أكثر منه. وكانت درجة تطور العرب آنذاك متدنية مقارنة بالحضارات الأخرى.

في هذه البيئة عاش محمد رسول الله وخاتم النبيين عليه السلام من سنة 570 إلى 632 ، في سياق تاريخي وديني وثقافي واجتماعي شبيه بالذي عاش فيه إبراهيم عليه السلام ، الذي يعزى أنه عاش في القرن التاسع عشر قبل الميلاد تقريبا.

ولإبراهيم عليه السلام مكانة معتبرة في اليهودية والنصرانية وكذا في الإسلام. وقد جاء في القرآن ذكر إبراهيم الخليل عليه السلام غالبا في سياق المحاجاة والحج وكإمام يُتبع وقدوة يُحتذى بها.

فمن الآيات التي ذكر فيها إبراهيم عليه السلام مع مفهوم الحجّة والمحاجاة قوله تعالى في الآية 80 و 83 من السورة 6 (الأنعام) :

{ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ… }

{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ… }.

كما جاء موضوع الحج أي قصد البيت الحرام في الآية 27 من السورة 22 (الحج) والخطاب لإبراهيم عليه السلام :

{ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ }.

أما عن اتباع مِلَّة سيدنا إبراهيم عليه السلام فنقرأ في الآية 123 في السورة 16 (النحل) :

{ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }.

وأيضا في قوله تعالى في الآية 95 من السورة 3 (آل عمران) :

{ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }.

وفي الآية 125 من السورة 4 (النساء) :

{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا… }.

وللتذكير فإن مادة كلمة « حجّ » هي « ح – ج – ج » ، ومن معاني الحجّ في اللغة هو الغلبة بالحجة وفعل « حاجَّ » معناه جادل وخاصم ونازع وناظر بالحجَّة أي دافع عن رأيه بالحجة إتيانا بسلسلة من الحجج بغية بلوغ الهدف المنشود.

والحج في المعاجم هو « القصد »، ومن هنا جاء مصطلح الحج أيضا وهو قصد البيت الحرام لأداء المناسك.

ثمة قاسم مشترك بين « المناظرة بالحجة » و « حج البيت الحرام » لأداء المناسك ؛ فكلاهما سعي وقصد بنِيَّة الوصول إلى غاية معينة ؛ لذا قمت بترجمة كلمة « حجّ » بحسب السياق إما بكلمة « Pèlerinage » أو « Argumentation ».

هذا ويؤكد القرآن أن إبراهيم عليه السلام لم يكن من المشركين بل كان توحيده خالصا لله تعالى.

فعبارة { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ذكرت خمس مرات في القرآن الكريم :

–                      الآية 135 من السورة 2 (البقرة) ؛

–                      الآية 67 من السورة 3 (آل عمران) ؛

–                      الآية 95 في السورة 3 (آل عمران) أيضا ؛

–                      الآية 161 من السورة 6 (الأنعام) ؛

–                      وأخيرا في الآية 123 من السورة 16 (النحل).

ثم مرة واحدة بفارق طفيف { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } في الآية 120 من السورة 16 (النحل).

جاء هذا التأكيد على أن إبراهيم عليه السلام ليس من المشركين شهادة بليغة على أنه رمز من رموز التوحيد في كل العصور.

كما أن هذه العبارة وردت بصيغة المتكلم مرتين : { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ، على لسان إبراهيم عليه السلام في الآية 79 من السورة 6 (الأنعام) وعلى لسان محمد عليه السلام في الآية 108 في السورة 12 (يوسف).

ومن وجوه تفسير عبارة { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ … } في الآية 78 في السورة 22 (الحج) : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ … } أن الضمير « هو » يعود على إبراهيم أي أنه أوّلَ من سمى المسلمين بهذه التسمية.

وقد جعل الله إبراهيم عليه السلام إماما للناس ، بدليل الآية 124 من السورة 2 (البقرة) : { … قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا… }.

يمكن تلخيص مسلك إبراهيم عليه السلام لبلوغ الإيمان اليقيني بالقول أنه باحث ، فيلسوف وعالم في زمانه توصل إلى الإيمان عن طريق الحجة العلمية.

أقف هنا عند حرف الباء في القرآن. فالباء حرف جر يفيد معاني عدة مثل الاستعانة والسببية والمعية والظرفية مكانيا أو زمانيا كما تفيد التعدية والقسم والإلصاق والتوكيد وغيرها من المعاني. وقد يجتمع أكثر من معنى في العبارة ، لذلك أوليْتُها أهمية قصوى وترجمتها بكلمة « par » على أن يتم تعيين وتحديد معناها من سياق الآية.

إن إبراهيم عليه السلام أسلم وجهه لله بالاعتماد على العقل والحجة العلمية فأنْعم الله تعالى عليه بالوحي واتخذه خليلا.

نقرأ في الآية 131 من السورة 2 (البقرة) : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }.

وفي الآية 125 من السورة 4 (النساء) : { … وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا }.

إن إبراهيم عليه السلام باحث أذعن إذعانا تاما لله وأسلم وجهه له. يقول سبحانه وتعالى في الآية 84 من السورة 37 (الصافات) : { إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }.

إن سيدنا إبراهيم عليه السلام ، الأب والإمام الذي لا يزال إلى اليوم أسوة وقدوة لعدد لا يعد من الناس لهُوَ المثل الذي لا بد أن تقتدي به أمة مسلمة بحق. لقد كان هو وحده أمة بكاملها ؛ بشهادة الآية 120 من السورة 16(النحل) : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }.

وها هو عليه السلام في الآية 132 من السورة 2 (البقرة) يوصى بنيه ومن خلالهم الناس جميعا بالثبات على دين الإسلام : { … يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }.

وكلمة الدِّين من مادة « د – ي – ن » تعبر عن معنى ما هو حق عليك والمطلوب عليك لدى الآخرين مثل القرض كما تعني أيضا الواجب ، ما هو حق عليك بالأداء إلى الله. لذا أترجم هنا كلمة « الدين » بكلمة Créance.

لقد قلت آنفا أن محمدا رسول الله وخاتم النبيين عليه السلام عاش في ظروف تاريخية ودينية وثقافية واجتماعية شبيهة بتلك التي عاش فيها إبراهيم عليه السلام ، حيث كانت ممارسة طقوس التضحية بالبشر وخاصة الأطفال أمرا غير نادر.

وقد كان الفقر في جزيرة العرب في تلك الحقبة مدعاة إلى قتل بعضهم أولادهم. كما كان وأد البنات خوفا من العار سيما إن كانت أول مولود ، وكان آخرون يضحّون َ بأول أو بآخر مولود ذكر قربانا لصنم أو وفاء لنذر.

فالإسلام ظهر في بيئة صحراوية كانت تعم فيها مثل هذه التصورات والعقائد المظلمة. فالجاهلية بالمعنى القرآني هي توصيف للظلمات والظلامية وإشارة إلى المستغرقين في الجهل.

وللتذكير تشترك كلمتي « الظلمة » و « الظلام » مع كلمة « الظلم » في المادة « ظ – ل – م ». أما معانيها فمعنى « الظلمة » و « الظلام » هو السواد والعتمة أي انعدام النور سواء حسيا أو معنويا ومعنى الظلم هو الجور ووضع الشيء في غير موضعه أي ضد العدل.

فالمتأمل يلحظ تلازما بين الظلم والظلام ، فالظالم كمن يسير في الظلمة وانعدام النور فهو لا يبصر بل يتخبط ولا يرى معالم الطريق ويضع الأشياء في غير محلها ؛ فينحرف عن الصواب ويغرق في الظلام والظلم فتتراكم الظلمة عليه وتؤول به إلى ارتكاب المظالم فيصبح ظالما إلى درجة الغياب في غياهب الظلام الفكري والروحي.

بناء على كل ما سبق يمكننا القول بأن الظالم مُظلِم وظلاميّ والعكس صحيح أي أن المُظلِم والظلاميّ ظالم بل حتى المظلوم أي من وقع عليه الظلم يكون مُظلِم إذ يمارَس عليه التضليل ، وتبعا لذلك تظلم الدنيا في عينيه ولا يقدر على شيء.

واللافت للنظر هو أنه يُنسب إلى الرسول عليه السلام حديث رواه كل من مسلم والبخاري يربط بين الظلم والظلام والظلامية : « اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ». على ضوء هذه المعطيات ترجمت كلمة « ظالم » بكلمة « obscurantiste ».

وجاء في الذكر الحكيم في الآية 16 من السورة 13 (الرعد) : { … قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ… }.

وأذكّر هنا أنه على عكس عربية القرآن فإن مفهوم « الظلامية » (obscurantisme) لم يظهر في اللغة الفرنسية إلا منذ القرن التاسع عشر ، وتحديداً منذ عام 1819 ، للدلالة على أن الظلاميةَ معارضةٌ للتنوير.

بدأ الإسلام بظهور رجل يُدعى « محمد » كان ينفر عبادة الأوثان ، وكان يلقب بالأمين أي الموثوق به ، اصطفاه الله بالوحي بواسطة جبريل عليه السلام. واسم جبريل من الجبر.

كان محمد يختلي في غار حراء على مشارف مكة ويرتاده منذ خمس سنوات في شهر رمضان من كل عام للتعبد وللتفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض. أما باقي السنة فكان يُدير تجارة زوجته في الرحلات التجارية.

إن الله يجتبي المتواضعين من عباده ويخصّهم بميزات من دون سائر البشر؛ ليكونوا مهبط وحيه فيجعل لهم نورا من علمه ويجعلهم أئمة يَهتدي بهم أولوا الألباب.

باصطفائه محمدا عليه السلام ، وهو أعلم حيث يضع رسالاته ، فإن الله عز وجل اصطفى رجلا متواضعا وأوحى إليه كما أوحى للرسل والأنبياء من قبله ، أنه لا إله إلا هو ، الأول والآخر الذي ليس كمثله أحد ، وهو رب العالمين.

والعالمين جمع عالم وتجدر الإشارة هنا أن كلمتي « عالَم » و « عالِم » في مادة واحدة وهي « ع – ل – م ». ومنها كلمة « عِلْم » مفرد « علوم » أي المعرفة.

والعالَم أي الوجود ذو صلة وثيقة بالعِلم أي بالمعرفة الموضوعية التي يكتسبها الإنسان عن هذا العالَم. فماهية هذا العالَم مبنية أساسا على هذه المعلومات الأولية أي أن المعلومات هي مكوّن أولي للقوانين الكونية. إذ لا يمكن إدراك العالَم الحقيقي إلا عن طريق المعرفة العلمية ، وعليه أي منحى آخر لوصف العالَم وتفسير الواقع يكون من وجهة نظر ذاتية أي غير موضوعية ، ينتج عنه الخرافات والأساطير والرؤى الوهمية والخوارق التي تعطي الأشياء والأجسام نوعا من القدرة الخارقة.

كذلك كان تصور غالبية القدماء ، لعوالم خرافية وخيالية تعبر في أغلب أشكالها عن الجانب اللاعقلاني وتُغَيِّب الوعي والعقل ، لكن مع ذلك فقد كان لديهم حدس بأن العالَم له معنى وهدف.

في الواقع إن ذلك المستوى من الوعي القاصر والبدائي بالمقارنة بالمعارف المكتسبة منذئذ ، مهَّد لإرساء الفكر والبحث العلمي الذي نشهد نتائجه المذهلة اليوم وكل يوم.

وللإشارة تدل الآية 52 من السورة 42 (الشورى) على مبلغ الرسول عليه السلام من العلم قبل الوحي :

{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }.

كما تنفي الآية 48 من السورة 29 (العنكبوت) ممارسة وإتقان النبي القراءة والكتابة قبل الوحي : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }.

يقول الله تعالى : { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } ، فما معنى الإيمان وكيف يمكن ترجمته.

إن كلمتي « أَمْن » و « إيمان » تنحدران من مادة واحدة وهي « أ – م – ن »، وكلمة « أَمْن » هي أدنى صيغة من هذه المادة للتعبير عن الطمأنينة والضمان والأمان.

والإيمان بالمفهوم القرآني يُكتسب عن طريق المعرفة أي بالتحرّي والتأكّد والتثبّت ، فهو ليس مجرد مسلمات نسبية وغامضة.

فوجود الله فطري عند الإنسان ويكون بما أوتي الإنسان من ملكة العقل. إن الشهادة بالله تكون بالضرورة عن علم وإدراك.

أترجم كلمة « المؤمن » بكلمة « L’assurant » لأن المؤمن يبحث ويتحرى الحقيقة للوصول إلى اليقين الذي لا يخالطه شك ومن ثم يصبح آمنا ومؤمنا.

إن رسول الله محمدا عليه السلام أوتي النور والعلم أي القرآن والفرقان ، كتاب الله ليبلغه للناس كافة.

كان محمد غنيا بثروة زوجته ، وكان عزيزا بين ذويه وعشيرته وها هو يصبـح مستـودع الحق وأمـيـنـا عليه. لقد ابتُليَ بالخير والشر ككل الأنبيـاء والرسل من قبله والصالحين وكجميع البشر. جاء في الآية 4 إلى الآية 11 من السورة 93 (الضحى) :

{ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) }.

تلقــى محمد عليه السلام كتابا جديدا ، القـــرآن ، مصدقا لما بين يديــه من الكتب السماويــة ومجددا ومتمما لها ، إنه مبلغ الوحي الذي أُرسِل به كل رسول في زمانه إلى قومه.

فبخاتم النبيين مـحـمــد عليه السلام يكون الدين قد اكتمل والتوحيد الخالص قد رسخ نهائيا كما جاء في الآية 40 من السورة 33 (الأحزاب) :

{ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }.

فالإسلام إذن قد ختم الدين كله كما تنص عليه بكل وضوح الآية 3 من السورة 5 (المائدة) :

{ … الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا … }.

وفي الآيتين 18 و 19 من السورة 3 (آل عمران) :

{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) }.

فعقيدة التوحيد ثبتت ورسخت ببعثة محمد عليه السلام وظهور الإسلام ؛ فتراجع الشرك الذي كان موغلا في جزيـرة العرب منذ القدم رغـم تواجد الديانات السماوية كاليهودية والنصرانية.

والتوحيدُ الخالص والإيمان بالله الواحد في عصرنا هذا ، عصر التقدم والعلم ، يبقى هو القضية الكبرى خاصة عند المؤمنين من العلماء. والآية 255 من السورة 2 (البقرة) أي آية الكرسي في وصف الذات الإلهية تنص بروعة على أن :

{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }.

ناهيك عن جوهر التوحيد في السورة 112 (الإخلاص) والتي يروى أن قراءتها تعادل ختم المصحف:

{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) }.

ومن أسس وقيم التوحيد الخالص وإفراد الله بالعبودية ما تلخّصه الآيات 22 و 23 و 24 من السورة 59 (الحشر) :

{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) }.

وأود هنا أن أعقب على جزء من الآية 3 في السورة 5 (المائدة) وهو :

{ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا … }.

فهذه الآية هي آخر ما نزل من القرآن بحلاله وحرامه وبمضمونه وشكله. إنها ختام الوحي الإلهي في هذا الشأن.

فالإسلام ، وهو أول وآخر دين ، اكتمل عند نزول هذه الآية كما ارتضاه الله تعالى لعباده ؛ فأصبح كاملا لا نقصان فيه ولا حاجة له في الزيادة.

لذلك فإن كل ما أُحلَّ وحُرِّم بعد ما نزلت هذه الآية فهو ليس من أصل الإسلام البتّة بل هو نتاج ظروف تاريخية تخصّ قضايا المسلمين.

من يزعم غير هذا فهو يدعي بأن الدين لم يكتمل عند نزول هذه الآية رغم صريح النص باكتمال الدين وتمامه.

ومع هذا فأهل التقليد بجميع مكوناته من مذاهب وتيارات ينظرون إلى السنّة التي أُنتجت أكثر من قرن بعد نزول القرآن على أنها مقدّسة ومكمّلة للدين ومُلزمة للمسلمين. هذا الموقف يعتبر السنة أصلا من أصول الدين.

إنه لَمِن الغرابة والبُعد عن الصواب القول بأن كلام الله في القرآن غير كاف بل يحتاج لسنتهم فلا يستقيم بنفسه بل بغيره من روايات وأقوال وأحاديث تنسب إلى الرسول عليه السلام. سبحان الله عما يصفون.

وسأوضّح بالتفصيل لاحقا موقفي من هذه المسألة.

وللحديث بقية.

والحمد لله رب العالمين.

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لمؤسسة حفظ و نشر أعمال السيد فريد قبطاني