فريد قبطاني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
« … رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) »
س 20 (طه).
« … رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) »
س 17 (الإسراء).
أود أن أستهل الجزء الثاني من « رسالة الإسلام الأصلية » بالتذكير بتعاريف كنت قد تطرقت إليها في الجزء الأول وهي : الإسلام والإيمان والدين.
1. الإسلام :
كلمة « الإسلام » لغة من مادة « س – ل – م » والتي منها « سِلم » أصغر كلمة ، فمفهوم الإسلام مشتق من السلم والسلام لفظاً ومعنى. وعليه فالإسلام هو تحقيق السلم والسكينة وإقامة السلام واستعادته وصيانته. إنه الخضوع لله بسلام. فالإسلام هو تفعيل وتثبيت للسلام والكلمة المناسبة لهذا المفهوم في الفرنسية هي « pacification ». فمن يسلم نفسه لله يدخل في السلم ويكبح جماح التمرد والعصيان في نفسه ومن حوله فهو مسلم « pacifié » ومسالم « pacifiste » يجنح إلى الهدوء والأمن والطمأنينة ، خال من الصراعات والنزاع ؛ فيصبح قلبه سليما صالحا ويكون في حالة سلام مع الله ومع خلقه.
2. الإيمان :
إن كلمتي « أَمْن » و « إيمان » تنحدران من مادة واحدة وهي « أ – م – ن »: وكلمة « أَمْن » هي أدنى صيغة من هذه المادة للتعبير عن الطمأنينة والضمان والأمان.
والإيمان بالمفهوم القرآني يُكتسب عن طريق المعرفة أي بالتحرّي والتأكّد والتثبّت ، فهو ليس مجرد مسلمات نسبية وغامضة.
فوجود الله فطري عند الإنسان ويكون بما أوتي الإنسان من ملكة العقل. إن الشهادة بالله تكون بالضرورة عن علم وإدراك.
أترجم كلمة « المؤمن » بكلمة « l’assurant » لأن المؤمن يبحث ويتحرى الحقيقة للوصول إلى اليقين الذي لا يخالطه شك ومن ثم يصبح آمنا ومؤمنا.
3. الدين :
الكلمات المكوّنة من مادة « د – ي – ن » تعبر عن معنى ما هو حق عليك والمطلوب منك لدى الآخرين مثل القرض كما تعني أيضا الواجب ، ما هو حق عليك بالأداء إلى الله. لذا أترجم هنا كلمة « الدين » بكلمة Créance.
إن الرسالة الإلهية واحدة لم تتغير منذ بدء الخليقة ، منذ آدم عليه السلام إلى محمد خاتم النبيين عليه السلام ومن قبله إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام أجمعين ؛ إذ لم تتغيّر هذه الرسالة في جوهرها وإنما اتخذت أساليب مختلفة إلى أن تمت واكتملت بالإسلام.
فالقرآن الذي أنزل على محمد عليه السلام جاء بالرسالة ذاتها أي بالدين الواحد ، الأول والأخير وفحواه :
يا أيها الإنسان إن الله قد أكرمك بالعقل فادرس الماضي والحاضر ، واستعن بالعلم والمعرفة وتدبَّر في ملكوت السماوات والأرض والبحر والحياة والموت ، وفي كل صغيرة وكبيرة.
حينها أيها الإنسان تصل إلى معرفة الله الخالق عز وجل وإلى الإقرار والشهادة أن لا إله إلا هو ، وتدرك مغزى الحياة والوجود ؛ فكل ما فيهما ينطق بوجود الله وبعظمته وقدرته.
فلن تعبد إلا الواحد الأحد الحق ولن تشرك بعبادته أحدا وتفكر تفكيرا سليما وتسعى بعدل وإحسان ، فترتقي بالأخلاق الرفيعة وتسمو بنفسك عن السوء والمظالم والفساد في الأرض على بصيرة إيمانا بالله الذي يجزي كل نفس بما كسبت.
لِنتدبّر سويا الآية 35 من السورة 24 (النور) :
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
والآية 41 من السورة 39 (الزمر) :
{ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ }.
وكذلك الآية 30 من السورة 30 (الروم) :
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }.
فالإسلام دين الصلاح والإحسان والوسط والاعتدال ، إنه دين العلم ومعرفة الله من خلال سننه في الخلق . فمن بين أهم الميزات التي ينفرد بها القرآن عن الكتب التي أنزلت من قبله تأكيدُه وإلحاحه على مفهوم العلم والمعرفـة.
أليست أوّل كلمة من الوحي الذي أُنزل على محمد عليه السلام هي « إقرأ » في الآيات الخمس الأولى من السورة 96 (العلق) :
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) }.
أو لم يأتِ أيضا ذِكْر آدم ، أول إنسـان للمرة الأولى في القرآن مقترنا بالعلم في الآية 31 من السورة 2 (البقرة) :
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا… }.
فالصلة وثيقة في القرآن بين العلم والإنسان منذ بداية خلقه. فأول ما تعلّم آدم عليه السلام من الله عز وجل هو الأسماء كلها كما أن أول ما أُمِر به محمد عليه السلام خاتم النبوة هو الأمر بالقراءة « إقـرأ ».
فالرسالة الإلهية للنـاس أجمعيـن ، منذ البدء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، هي الدعوة إلى القراءة والتعلم والحث على التدبر في الخلق للوصول إلى معرفة الخالق والعــمــل بما يتطلبه هذا العلم والإيـمــان أي الاستقامة وفعل الخيرات إذ أن البعث والحساب لا ريب فيهما.
كما نقرأ في الآية 27 من السورة 16 (النحل) :
{ … قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ }.
وفي الآية 56 من السورة 30 (الروم) :
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }.
كل هذه الآيات تدل على أن العلم هو أول أمر إلهي في القرآن أي أول أمر وتكليف في الإسلام.
لذا من الضروري فهم التنزيل أي القرآن وفهم الإسلام على الوجه الصحيح وبالتالي تجاوزُ تلقين التفكير التقليدي الرجعي المُهيمِن والمنتشر كالنار في الهشيم ؛ إذ أنه يحجب ويحرف بتناقضاته حقيقةَ الرسالة الإلهية للناس جميعا.
إمعان النظر والتدبّر فيما يُتاح للحواس من قول وسمع وبصر يسمح بإدراك ذواتنا وغيرنا والموجودات.
أما تَفهُّم ما هو أبعد مما تدركه الحواس فهو الوعي الشامل بذواتنا وبغيرنا وبالموجودات.
وفوق ذلك كله يوجد الحق الذي لا تدركه الأبصار اللطيف الخبير سبحانه عما يصفون.
تشترك كلمتا « عالَم » و « عالِم » في مادة واحدة وهي « ع – ل – م ». ومنها كلمة « عِلْم » مفرد « علوم » أي المعرفة.
والعالَم أي الوجود ذو صلة وثيقة بالعِلم أي بالمعرفة الموضوعية التي يكتسبها الإنسان عن هذا العالَم. فماهية هذا العالَم مبنية أساسا على هذه المعلومات الأولية أي أن المعلومات هي مكوّن أولي للقوانين الكونية. إذ لا يمكن إدراك العالَم الحقيقي إلا عن طريق المعرفة العلمية ، وعليه أي منحى آخر لوصف العالَم وتفسير الواقع يكون من وجهة نظر ذاتية أي غير موضوعية ، ينتج عنه الخرافات والأساطير والرؤى الوهمية والخوارق التي تعطي الأشياء والأجسام نوعا من القدرة الخارقة.
كذلك كان تصور غالبية القدماء ، لعوالم خرافية وخيالية تعبر في أغلب أشكالها عن الجانب اللاعقلاني وتُغَيِّب الوعي والعقل ، لكن مع ذلك فقد كان لديهم حدس بأن العالَم له معنى وهدف.
في الواقع إن ذلك المستوى من الوعي القاصر والبدائي بالمقارنة بالمعارف المكتسبة منذئذ ، مهَّد لإرساء الفكر والبحث العلمي الذي نشهد نتائجه المذهلة اليوم وكل يوم.
والقـرآن يزخر بالآيات التي تحث ّ على التفكّر والتدبّر وتذكر العلماء وأولي النهى ، أذكر بعضها وهي فيض من غيض : الآية 176 من السورة 7 (الأعراف) :
{ … فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }.
والآية 21 من السورة 59 (الحشر) :
{ … وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }.
والآية 24 من السورة 10 (يونس) :
{ … كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }.
والآية 219 من السورة 2 (البقرة) :
{ … كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }.
والآية 191 من السورة 3 (آل عمران) :
{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار }.
والآية 5 من السورة 10 (يونس) :
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }.
والآية 22 من السورة 30 (الروم) :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ }.
والآية 43 من السورة 29 (العنكبوت) :
{ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }.
والآية 28 من السورة 35 (فاطر) :
{ … كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }.
والآية 11 من السورة 58 (المجادلة) :
{ … يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }.
وأخيرا وليس آخرا الآية 49 من السورة 29 (العنكبوت) :
{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ }.
إن أثر القرآن على العلماء المسلمين وإثراء فكرهم حقيقة لا خلاف فيها. كل هؤلاء العلماء ما عدا قلة قليلة ، كانوا مؤمنين نشأوا وتعلموا في كنف القرآن وإضافة إلى معرفتهم بأمور العقيدة والدين فقد استفادوا من منطلقات القرآن العلمية ليتخصصوا في العلوم.
لقد أثْرَوْا الحركة العلمية الإنسانية بمعرفتهم وبمعارف الذين سبقوهم وساهموا في مجالات علمية مختلفة. وتعد انجازاتهم العلمية بمثابة الأسس التي قامت عليها العلوم الحديثة.
وطالما شهد العلماء المسلمون بأن دراستهم العميقة للقرآن كانت بحق المُحفِّز والسبب لاهتمامهم واشتغالهم بالبحث وبالعلوم.
لقد ذكرت من قبل الآية 56 من السورة 30 (الروم) التي تبدأ كالتالي :
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ … }.
فكلمة « العلم » في هذه الآية جاءت قبل كلمة « الإيمان » ولكنهما في الحقيقة متزامنتان. فالمعرفة متى اتصلت بالإيمان تؤول بصاحبها إلى السلام والطمأنينة والقلب السليم. وبدون العلم وعند انعدام البصيرة يكون الإيمان رهينة الظروف والأهواء ويقود إلى الأحسن و/أو إلى الأسوأ كما أثبت ذلك التاريخ القديم والحديث.
لقد كانت مرجعية العلماء المسلمين دون استثناء قرآنية كما كان النبي عليه السلام ، أما المتشددون والمتطرفون فهم من أهل التقليد سواءً القدماء منهم والمحدثون.
لقد نقل العلماء المسلمون للإنسانية الحجر الأساس لجميع المعارف الحديثة. والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي كان منطلقا وباعثا لحضارة قائمة على العلوم.
أما الرجعيون والمتعصبون والمجرمون فهم في كل العصور وفي كل المجتمعات آفات وأمراض لابد للبشرية الوقاية منها وعلاجها.
الإسلام من السلم والسلام ونقيضه هو اتباع خطوات الشيطان كما في الآية 208 من السورة 2 (البقرة) :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }.
لئن كان اعتناق الإسلام يقتضي شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن الشهادة الصحيحة لا تتم إلا بتحصيل العلم ومعرفة الحقائق. فبتحصيل هذه المعرفة يسكن الإيمــان صميــم العقل والوجدان. وعلى قدر الإيمان يكون الإنسان متواضعا وفي علاقة سلام وحب مع الله ؛ حينها يتفهم الإنسان المغزى الحقيقي للوجود أي من أين هو آت وإلى أين هو ماض فيميز بين الخير والشر وبين الحق والباطل فيسعى إلى العمل الصالح.
فالمسلم الذي أوتي علما ومعرفة لا محالة إنسانُ سِلم ٍ وسلام ، سمح في معاملاته طيب وخيّر وبار بغيره.
إنه يؤمن بالله الواحد الأحد ولا يشرك به أحدا ، إله إسرائيل والمسيح ومحمد عليهم الســلام ، إله النـاس أجمعين بلا تمييز ، إله السـمـاوات والأرض وما بينهما ، إله من في السماوات ومن في الأرض. وبما أن الدين عند الله هو الإسلام ، فالله يرفع من يشاء ويغفر لمن يشاء. كتب على نفسه الرحمة. رحمته وسعت كل خلقه. وهذا من صميم الدين.
يقول الله عز وجل في الآية 54 من السورة 22 (الحج) :
{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }.
القرآن ليس كتابا غامضا مغلقا حِكرا على النخبة أو على فئة قليلة من العارفين بل هو خطاب مبين يخاطب العامة والخاصة أُنزِل لتبليغه وتلقينه للناس جميعا.
إلا أن القرآن هو وحي إلهي فريد ومتميز عن سائر الكتب فهو يتضمن عدة مستويات للقراءة تأتي جنبا إلى جنب ومتكاملة ؛ فلا يمكن لأي تفسير حرفيا كان أم إشاريا إغفالها.
ومع هذا يمكن الوصول إلى المعنى المقصود من خلال تحليل النص ببُعديْه الخاص والعام. فالقرآن إذن ميسَّر للفهم لكل من يتمتع بالعقل والتفكير السوي ؛ لكنه مُبهم موصَد الأبواب على الصم الذين لا يريدون سمعا والعمي الذين لا يريدون إبصارا.
يجد القارئ في أبحاثي عشرات الأمثلة تدل كلها على أن القرآن يولي أهمية قصوى للتفكر والتدبّر كما يحث على طلب العلم وبالتالي على معرفة الله.
القرآن بالأساس ليس شريعة أو قانونا وإنما وحي ، هو دين لأنه يؤسس صلة بين الإنسان وبين حقيقة مطلقة أي الله ويتحقق ذلك من خلال العلم والإيمان ، والحسن والإحسان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإسلام والسلام وتلك هي رسالة الإسلام الأصلية.
وخلافا للكتاب المقدس وأغلبية الكتب الدينية التي تسرد بشكل متسلسل قصص خلق العالم وخلق الإنسان وقصص الرسل والأنبياء ، فما عدا سورة يوسف ، نجد أن القرآن الكريم لا يسرد الأحداث والوقائع بشكل متواتر ومتتابع في سورة معينة وإنما تأتي متفرقة في عدة مواضع من القرآن بحسب ما يقتضيه السياق والمراد منها.
وخلافا لما يظن ويدعو إليه بعضهم فإن القرآن ليس كتاب تاريخ ولا قانون مدني أو جنائي بالمعنى المتداول. إنه كتاب يتطلب لفهمه العميق تحليلا دقيقا والاستعانة بتخصصات متعددة وأن يدرس جملة وتفصيــلا وأن لا يستهان بأي صغيرة أو كبيرة فيه. فهو وحي وكلام إلهي يخاطب عقل الإنسـان ووجدانه معا.
ونقرأ في الآية 89 من السورة 17 (الإسراء) :
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا }.
ولنا مثال آخر في الآية 21 من السورة 59 (الحشر) :
{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }.
فأهل الاختصاص اليوم يقرّون بأن المصحف الذي بأيدينا اليوم ، ما عدا بعض القراءات الطفيفة ، لا يختلف عن أقدم المخطوطات القديمة التي كُتِب لها البقاء أي أنه يوافق ما كان عليه في الأصل.
منذ أكثر من أربعة عشر قرنا وفي قلب الصحراء أوحى الله جل ّ وعلا إلى محمد عليه السلام أن هذا الكتاب ، هذا الذكر أي القرآن المرسل للناس قاطبة ، لا يمسّه تحريف ولا تبديل ، فالله الذي أنزله هو الذي يتكفل بحفظه.
وسواء كانوا عربا أم عجما فعدد المسلمين الذين يحفظون القرآن الكريم على ظهر قلب بكامله أو بعضا منه كبير جدا ، إلى درجة تجعل من المسلمين يشكلون إلى يومنا هذا في القرن الواحد والعشرين الأمة الأكثر حفظا لكتابها المنزل.
ونقرأ في الآية 9 من السورة 15 (الحجر) قوله تعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }.
ومع أن القرآن محفوظ لم تَشُبْه شائبة يبقى على الكثير من المسلمين الوصول إلى كنهه إذ نقرأ من الآية 77 إلى الآية 80 من السورة 56 (الواقعة) قوله تعالى :
{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) }.
وفي الآيتين 21 و 22 من السورة 85 (البروج) :
{ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ۬ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) }.
وفي سياق آخر ولاختتام هذا الجزء نذكر إحدى الصفات التي وصف بها الله عز وجل ذاته وهي عبارة « رب العالمين ».
من بين كل صفات الله عز وجل التي ذُكِرت في القرآن الكريم نلاحظ أن عبارة « رب العالمين » وردت اثنتين وأربعين مرة ، وهذا في حد ذاته يعبّر عن مفهوم عالمية الإسلام الذي هو دعوة للناس كافة.
فالله سبحانه وتعالى ليس رب السماء فحسب ولا رب الأرض فحسب بل هو رب العالمين ، رب السماوات والأرض وما بينهما ، (رب الثقوب السوداء وأشياء أخرى مما لا نعلم).
ولئن استعصى هذا المفهوم بعض الشيء على المسلمين الأوائـل فإنـه يتضح بكل معانيـه في ضوء المعطيــات العلميـة الـحـديـثــة. فقد جاء في الآيتين 23 و 24 من السورة 26 (الشعراء) :
{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) }.
وفي الآيتين 4 و 5 من السورة 37 (الصافات) نقرأ :
{ إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ۬ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) }.
في خضم المليارات من المجرات والمجموعات الشمسية إن كان العلماء لا يزالون يتساءلون حول احتمالية وجود مخلوقات حية في الكون فإن القرآن يجزم بذلك ويحسم الأمر.
بالإضافة إلى الملائكة الموجودين في السماوات ثمة مخلوقات حية ، وربما ذكية ، في الكون ويكفي إعادة النظر في الآيتين 49 و 50 من السورة 16 (النحل) لنتأكد من ذلك :
{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) }.
كما تؤكد ذلك الآية 29 من السورة 42 (الشورى) :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ }.
أتوقف معكم عند الآية 18 من السورة 22 (الحج) ، وللحديث بقية :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ }.
والحمد لله ربّ العالمين