سأختتم بهذا الجزء أي الخامس سلسلة المحاضرات حول « رسالة الإسلام الأصيلة ».
إن المارقين يشوهون دين التوحيد والمعرفة وحرية المعتقد والاختيار والتسامح والإسلام والسلم لابتداع عقائد ظلامية رجعية تقوم على البغض والعنف ، في حين أن القرآن علَّمنا التعامل بالحسنى ؛ فالله سبحانه وتعالى حين أرسل موسى وأخاه هارون إلى الطاغية فرعون أمرهما بأن يقولا له قولا ليّنا في الآية 44 من السورة 20 (طه) :
هذه الآية وغيرها تمثل النموذج الذي يقتدي به المسلم.
ولئن كان دخول المساجد في غالب الأحيان محظورا على غير المسلمين في أيامنا هذه فإن رسول الله عليه السلام كان يستقبل في مسجده اليهود والنصارى وغيرهم.
جرت العادة أن تُترجم كلمة « مسجد » إلي اللغة الفرنسية بكلمة « Mosquée » التي تُقرأ (مُسْكِ). إلا أن هذه الكلمة دخلت إلى اللغة الفرنسية عبر الكلمة الإسبانية « mezquita » التي تُنطق (مِسْكِطَ) المقتبسة من كلمة « مسجد » لكن كلمة « Mosquée » تحجب المعنى الأصلي لكلمة « مسجد » التي مادتها « س – ج – د » وهو اسم صيغ من الفعل الثلاثي على وزن مَفْعِل ومعناها « مكان السجود ».
لهذا السبب فضلت أن أترجم كلمة « مسجد » بكلمة « prosternat » التي تُقرأ (بْرُوسْتَرْنَ) والتي تعني « مكان السجود » أيضا وهي مشتقة من كلمة « بْرُوسْتَرْنِ » أي فعل « سجد » بالفرنسية. واختياري هذا يسمح لغير المعرّب الوقوف على المعنى الأصلي لكلمة « مسجد ».
من المعهود أن كل عرض يبدأ بمقدمة تُتبع بتوسيع لينتهي بخاتمة. وكذلك القرآن إذ يبدأ بالسورة الأولى وهي الفاتحة ثم يتوسع في معانيه ومضامينه ابتداء من السورة 2 وهي البقرة ويختتم بأواخر السور التي يعود معظمها إلى الفترة الأولى من نزول الوحي للدلالة على أهمية العودة إلى الأول أي إلى الأصل.
يبدأ التقويم الهجري في الأول من محرم الموافق ليوم 15 أو 16 من شهر جويلية سنة 622 م استنادا إلى سنة هجرة الرسول عليه السلام من مكة إلى المدينة. وخلافا لما استقر عليه الأمر بعد عهد الرسول عليه السلام ليست هجرته إلى المدينة المنورة عام 622 ميلادية هي التي تؤسس التقويم الإسلامي بل كان من اللازم استنباطه من القرآن الكريم نفسه وهو ما ورد في السورة 97 (القدر) إذ أن التقويم الإسلامي يبدأ بنزول الوحي أي الآيات الأولى من السورة 96 (العلق) وقد كان ذلك في غضون سنة 610 م.
فرسالة الإسلام الأصلية تشمل مدة الوحي بكاملها أي من 610 إلى 632 م لكن التيار التقليدي لا يزال إلى الآن يفضل ويتمسك بالتقويم الهجري ويعتمد عليه رغم أن كل المؤرخين المسلمين بمختلف تياراتهم بما فيهم التقليديين يعترفون بأن التقويم الهجري أُحدِث بعد وفاة الرسول عليه السلام. أما القرآن الكريم وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فنَصُّهُ واضح وصريح ، إنه يتحدث عن ليلة نزول القرآن المجيد ويعظم من شأنها في الآية 3 من السورة 97 (القدر) :
{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }.
ألم يكن من الحكمة أن يبدأ التقويم الإسلامي بأول حدث في الإسلام وأعظمه وهو أوّل الوحي وبدايته فالإسلام لم يبدأ بالهجرة بل بنزول الوحي الإلهي.
إن تبني التقويم الهجري بعد رسول الله عليه السلام كانت له انعكاسات هائلة في المجالات السياسية والعقدية والفقهية. فهي تسمح للتقليديين بالاعتماد على الفترة المدنية على حساب الفترة المكية لاستنباط مفاهيمهم وتفاسيرهم. يقول تبارك وتعالى في الآية 85 من السورة 2 (البقرة) :
بعد وفاة الرسول عليه السلام سنة 632 م والفتنة الكبرى ما بين 656 و 680 م ولعدة قرون كانت الأسبابُ الأولى لتصدع وانقسام الأمة إلى فرق ناتجةً من الخلافات والصراعات السياسية المحضة ومن المصداقية الكبيرة التي خوّلتها هذه الفرق لمدونات السلف من الأقوال والأفعال والسنة المنسوبة إلى الرسول عليه السلام.
• المقصود بكلمة « السلف » هم الذين تقدموا زمنيا من الأمة على عهد الرسول عليه السلام كما تعني تجاوزا علماء القرون الأولى للإسلام.
• وكلمة « حديث » لغويا تعني كل ما يُتحدّث به من كلام. واصطلاحا تطلق على الكلام المنسوب للرسول محمد عليه السلام. وكُتُبُ الحديث تعُجُّ بآلاف الأحاديث.
• أما « السنة » و « السيرة » فهي عموما كل ما رُوِيَ من سلوك وأفعال ومعاملات الرسول محمد عليه السلام.
فكل تيار يفهم القرآن والإسلام من خلال ما يعتدّ به من حديث وسنة منسوبة للرسول عليه السلام ونتج عن ذلك تأويلات عقائدية وفقهية بل واجتماعية سياسية غالبا متناقضة. ولا يزال النقاش دائرا بين المؤرخين بمختلف تخصصاتهم حول قيمة هذه الأحاديث ومدى مصداقيتها وذلك حتى في أوساط علماء الحديث. ومع هذا لا تزال هذه الأحاديث مصب اهتمام المسلمين إلى حد أنها عمليا فاقت قيمة القرآن لتظل هذه الأحاديث الباعث الذي يفرق بين المسلمين ويشتت شملهم.
يعود تاريخ تدوين مصنفات السنة والحديث بين قرن ونصف إلى قرنين ونصف بعد وفاة الرسول عليه السلام والدراسات العلمية والموضوعية تثبت أن هذه المصنفات لا تُوفّر أي ضمان على صحتها ولا على دقة الكلام المروي فيها. فالمصداقية التاريخية لهذه المصنفات ، التي تعتمد حصريا على الرواية بالسماع ، تقريبية للغاية.
والغريب في الأمر أن عدد الأحاديث المروية في كتب السنة تزايد بشكل رهيب في أقل من قرن واحد من نحو 700 حديث إلى عدة آلاف.
وتثبت الدراسة العلمية الحديثة أن أقدمَ هذه الأحاديث ظهرت ابتداءا من أواخر القرن السابع إلى أوائل القرن الثامن (بعد سنة 680 م) أي تزامنا مع انتهاء الفتن التي عصفت بالمسلمين. ففي هذه الفترة نشأت التيارات السياسية والعقيدية والفقهية التي تعد العمدة لكل الموروث الديني عند المسلمين.
فمصنفات الحديث والسنة والسيرة إذن هي نتاج العديد من الأحداث والظروف التي عاشها المسلمون بعد وفاة الرسول عليه السلام ، وهي بهذا تمثل المفاهيم الايديولوجية والسياسية والاجتماعية لتلك الفترة.
فالضالون وأعداء الإسلام يوظفون هذه الكتب ذات المضامين المشكوكة لما يخدم أغراضهم ومقاصدهم فيشوّهون بذلك الإسلام.
ثمة روايات في هذه المصنفات تعطي تفسيرا فجا للقرآن أو شرحا يتعارض مع نص الآيات الصريح والمجازي كما تنسب إلى الرسول عليه السلام أقوالا وتصرفات ومواقف تتنافى مع شخصيته وتناقض رسالة الإسلام الأصلية.
إن الظلاميين المنغلقين فكريا والمجرمين وأعداء الإسلام يوهمون الجهلة بأن الإسلام مرادف للكراهية والعنف. وهم بذلك يشعلون نار الفتنة بخطابهم الدنيء ويثيرون العداوة والبغضاء فيشجعون على صدام الحضارات. فإن لم نحذر منهم عمّت الفوضى.
على الرغم من هذه المعاني السامية فقد تفرق المسلمون إلى فصائل مختلفة وتقطعوا أمرهم يُكفِّر بعضها بعضا غلوا وظلما ، فجعلوا رسالة الإسلام الأصلية وراء ظهورهم وخاضوا في القرآن بدون علم ولا بصيرة بل واتخذوه مهجورا واعتمدوا على روايات غير موثوقة ما أنزل الله بها من سلطان. والقرآن يشهد عليهم بذلك في الآية 8 من السورة 22 (الحج) :
مؤسف للغاية مَثَلُ الشخص الذي ينصت ولكنه لا يسمع شيئا ، يتعلم لكنه لا يفهم شيئا ، يعتقد أنه يعلم لكنه لا يفقه شيئا ، يرتجل في عمله ولا يتقن شيئا وهو في نهاية المطاف يتحايل ويفني حياته في خدمة باطله ، حياة سقيمة بلا علم ولا هدى ولا ضمير. لئن كان ذلك مضحكا في ظاهره فهو حقا مؤسف في حقيقته.
أنا مسلم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أي أن الدين عند الله هو الإسلام ، الإسلام لله في سلام. أنا لا أشهد أن أبا بكر أو عمر أو عثمان أو عليا رسل الله. ما هم إلا مسلمون ممن صاحب الرسول عليه السلام ، أصابوا وأخطأوا وليسوا معصومين. الكمال لله سبحانه المنزه عن النقائص.
أنا لا أنتمي ولا أتبع أي مذهب كلامي أو فقهي معيّن ، وهذا لا يحول دون إحساسي العميق بأنه من واجبي الدفاع عن المسلمين على اختلاف مآربهم ومشاربهم ، وأنا واحد منهم ، وأرفض بلا هوادة أن تتعرض الأمة الإسلامية إلى مزيد من التفرقة وأعارض المُكَفّرين والذين يسعون إلى تفرقة صفوف المسلمين أيا كانوا. إن الله لا يحب العدوان ولا المعتدين ، فهو الشاهد على أفعال الجميع والحَكَم بينهم وليس بيد أحد غيره مفاتح الجنة والنار.
المؤمن يعتقد أن الله هو الحق الذي لا يُعلى عليه ، له أَوْصَاف الحَقِّ كَامِلَةٌ على الإطلاق ، وما عداه لا يملك الحق المطلق بل يتعدد مفهوم الحق عند البشر بتعدد الآراء. يقول الفيلسوف موريس بلونديل « لا قيمة للحق إلا بالوحدة الكاملة لصياغته ، بينما الاعتراضات والإنكار فيسهل عليها دوما مداهمة التفاصيل ».
الحقيقة هي المعرفة التي ثَبَتت صحتها ، وثبَت تطابقها لموضوعها فاكْتَسَت بذلك قيمة عالمية مطلقة ونهائية ؛ إنها المعيار والمبدأ في الدقة والحكمة كما تعد بالإجماع المثل الأعلى للفكر والعمل.
إن بعضا من المذاهب السياسية-الكلامية والفقهية الموروثة من تاريخ المسلمين التي ظهرت بعد الرسول عليه السلام تخالف رسالة لبّ الإسلام الأصلية. ولكن وللأسف كُثْر هم أولئك الذين يجاهرون بأنها حقائق ثابتة صالحة لكل زمان ومكان.
لم تعد رسالة الإسلام الأصلية ولا قيمها العالمية هي التي تُدرَّس و تُبلّغ في المقام الأول ، إذ حُجبت ونُسيت وإنما تُدرَّس مذاهب طقوس بالية تنظر إلى المستقبل بمنظار الماضي البعيد ! إن الإسلام لا يحتاج إلى إصلاح ، وإنما التراث هو الذي يحتاج إلى الغربلة ونزع هالة القدسية عنه. أصبحنا ندرس المصنفات والمختصرات والأرجوزات عوض الدين القيّم أي دين الذين جاء ذكرهم في الآية 191 من السورة 3 (آل عمران) :
إن المؤسسات الدينية الحالية تُشيع وتنشر وتشجع على التمسك بالتقليد الإيديولوجي والطقوس واتباع المعتقدات العقيمة والعاجزة على مواكبة الحياة ؛ فليس من أولويات هذه المؤسسات نشر رسالة الإسلام الأصلية التي جاء بها القرآن وبلغها الرسول عليه السلام على حساب التقاليد التي استُحدِثت بعد الرسول عليه السلام والتي نُصِّبت كدين. لقد آن الأوان أن يقوم المسلمون بالتمييز بين الدين القيّم وبين التراث الإسلامي للوقوف على المعنى الأصلي للإسلام وإصلاح أنفسهم وفقا لذلك.
إن الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام أي الذي احتواه وفصّله القرآن الكريم هو المرجع الأساس لكل مسلم جدير بهذا الاسم. فهذا الإسلام هو إسلام العلم والمعرفة والتسامح والتقدم. أما التقليد الإيديولوجي فهو نزعة لتقديس ماض جامد لن يعود ؛ فالتاريخ يتقدم ولا يعود للوراء مهما فعلنا ، إن ذلك سنة من سنن الله عز وجل. علاوة على ذلك فإن تبجيل العقائد المبنية على التقاليد يؤول إلى الركود الفكري وشيوع الخرافات والتنميط والجهالة والظلامية ، كلها آفات لابد من تجنبها.
خلافا لما ينصّ عليه الإسلام الأصلي ودون الانتباه للمعطيات التاريخية والاجتماعية والسياق التاريخي ، لا يزال التقليديون يكررون الأحاديث التي تنسب إلى الرسول عليه السلام انتصارا وتعصبا لمذاهبهم وتأويلاتهم للقرآن وذلك رغم قوله تعالى في الآيتين 3 و 4 من السورة 53 (النجم) :
يفهم من هذه الآيات أن ما جاء على لسان رسول الله عليه السلام يقينا إنما هو الوحي الإلهي لا غير أي القرآن الكريم. فعبارة « قل » قد وردت 332 مرة في القرآن الكريم. وفي غالبية الحالات كان هذا الأمر موجها للرسول عليه السلام. وهذا الأمر المكرر عشرات المرات هو من صلب الخطاب القرآني لتبليغ رسالته التي لا تنضب. فما قاله الرسول عليه السلام بالتأكيد وباليقين هو ما أمره الله به وحْياً أن يقوله وهو في القرآن الكريم. وقد جاء في الآية 6 من السورة 45 (الجاثية) :
أما سُنة الرسول محمد عليه السلام من أفعال وسلوك فالصحيح والمؤكد منها هو ما جاء في القرآن الكريم نفسه. ففيه وُصف عليه السلام بالرأفة والرحمة والخلق العظيم. فالقرآن سرد لنا ما أمر الله به رسوله من قول وفعل وتبليغ رسالة ربه كما نقل لنا أسلوبه في تدبر الأمور وتسييرها ، بل يصف القرآن سيرة الرسول عليه السلام حتى مع آل بيتـــه ومع زيد ومع المؤمنيــن ومع الناس كافـة بما في ذلك أمور الزواج والطلاق.
الملاحظ أن كلمة « سنة » ذكرت في القرآن 16 مرة كلها مرتبطة بالله وبالأولين ولا وجود ، على الإطلاق ، ولا علاقة في القرآن لكلمة « سنة » بالرسول عليه السلام. لذلك متى ثبَتت صحة حديث أو سنة نبوية علميا يجب حصرها في الظرف الذي جاءت فيه.
إن المتعصبين الذين يدَّعون تمثيل الدين يستندون إلى الموروث التقليدي للمسلمين الذي هو نِتاج الظروف التاريخية ولا يستندون إلى نص القرآن أي الإسلام نفسه. لذا من الضروري التحرك لتعليم ونشر تعاليم الإسلام الأصلية ، كما بلّغها الرسول عليه السلام ، والتمييز بينها وبين الموروث الديني الذي نشأ ونما بل وحِيك بعده في ضوء متغيرات وظروف سياسية وفكرية وعقدية والذي تم خلطه بالإسلام دين العلم والإيمان والإحسان والتسامح والسلام.
الإسلام الأصيل هو دين الله وهو المنصوص عليه في القرآن الكريم. أما التقليد الإيديولوجي فهو نتاج تاريخ المسلمين بعد الرسول عليه السلام لذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُعْتَبَر من صلب الدين. ففي الظروف الخطيرة والمقلقة التي يمر بها مجتمعنا الحديث ، أرى أنه من واجب الجميع تشجيع ودعم وتعزيز البحوث والكتب العلمية المتعلقة بالإسلام الأصلي. فهو بها مؤهل لدحض وتحييد وإبطال ، بشكل فعال ودائم ، المغالاة في التقليد الإيديولوجي المتسبب في الكثير من الآثام والمآسي. إن المتعجرفين مهرِّجون ، لكن حين تواجههم بخطاب علمي خبير مُتقن فإنهم يرتبكون ولا يسعهم إلا الاعتراف بعدم كفاءتهم.
فلنحتكم إذن إلى كتاب الله المعتد به لدى كل المسلمين ، والآية 7 من السورة 3 (آل عمران) تلخّص بشكل لا غنى عنه النهجَ الذي يمكن مبادرة فهم القرآن من خلاله للإحاطة بمعانيه والتحقق من مضامينه :
إن هذه الآية مهمّة للغاية فهي واضحة المعاني ودقيقة ، سيما حينما يأخذ العالِم الباحث بعين الاعتبار الكتاب المنزل بكامله. والمراد أن ثمة مستويان من الفهم والتحليل يتساويان في الأهمية ، ينطبق أحدهما على مستوى المقطع أي العبارة والآخر يكون على مستوى العبارات فيما بينها.
فالمستوى الأول يخص لبّ الكتاب نفسه وجوهره وهو ثابت لا يتغير بتغير الزمان والمكان ، فهو أساس رسالة الإسلام الأصلية. أما المستوى الثاني فيخص أشكال وسبل تطبيقه التي يمكن أن تتخذ عدة أوجه حسب ظروف الزمان والمكان والأسباب والغايات وفقا للسقف المعرفي والحضاري لكل جيل ولكل بيئة.
تحتاج قناعتنا أحيانا إلى إعادة النظر وإلى تقييم جديد وربما إلى إصلاح للوصول إلى حقيقة قضية ما. يذكر القرآن مثلا القصاص بالنسبة للقدماء الذين كانوا يعيشون في مجتمعات بدائية ، ولكن في الوقت نفسه يرجح القرآن الكريم الحياة من خلال القَصاص عند أولي الألباب.
إن المستوى المعرفي والحضاري الذي بلغته مجتمعاتنا الحديثة لم يعد يسمح لنا على الإطلاق بأن نتصرّف بدافع من الغريزة والثأر بل ثمة بدائل حضارية كالوقاية والعمل بما يقتضيه العدل. يقول الله عز وجل في الآية 179 من السورة 2 (البقرة) :
فما لم تَستأصِل الغيظ والحقد من قلبك فإنك لن تستطيع أن تملأه بحب الله وأن تنشر ذلك الحب بين الملأ من خلقه.
لنأخذ مثالا آخر خارج الفكر التقليدي ، هل يوجد في القرآن نص يُلزم المسلمين بالتضحية بالحيوانات أيا كانت الظروف ؟ بكل تأكيد لا.
إن كلمة « الهَدْي » في اللغة العربية يمكن أن يكون لها معان كثيرة ترتبط بظروف الزمان والمكان والأسباب والغايات. أما استخدام كلمة « هدي » في القرآن فجاءت في سياق مناسك الحج بينما لم تأت كلمة « ذبح » في سياق مناسك الحج على الإطلاق بل جاءت في سياقات عدة منها قصة إبراهيم عليه السلام ؛ فالفرق كبير بين الأمرين من الناحية اللغوية وهو لاشك مقصود. فشتّان بين ذبح بهيمة وتقديم هدي أي هدية. بعد هذا التوضيح أمِن المعقول أن يكون ذبح الملايين من الأنعام في كل عام بمناسبة عيد الأضحى مُتّفقا ومُتّسقا ومُتناسبا مع المقاصد السامية للإسلام الأصيل ؟ هذا سؤال جوهري يتعين على كل مؤمن يخشى الله تعالى التفكير فيه مليّا.
وللتذكير ، يروى في السنن أن الرسول عليه السلام ضحى في حجة الوداع أي في مناسبة معينة عن أمته قاطبة. هذا الصنيع يُغْني عن كل أضاحي الحيوانات التي تمت منذ ذلك الحين وحتى قيام الساعة. ومعنى هذا أنه بإمكان كل مسلم أن يقوم في عيد الأضحى بتقديم هدية أيا كانت ما عدا الذبح والنحر مصداقا لقوله تعالى في الآية 37 من السورة 22 (الحج) :
من آداب المعاملة عند المسلم الحقِّ الرفقُ بالحيوان ؛ فلا يسيء معاملة أي حيوان ولا ينكل به ويكلّفه ما لا يطيق ولا يرهقه ولا يقتله بدون مبرر مقبول ، فما بالك إن كان للمتعة. وحتى ذبح حيوان للقوت فلا يحق إلا حين يستوفي شروطا منها أن لا يقتل الحيوان باستخفاف بل كاستثناء وتضحية يستشعر خلال القيام بها خشيةَ الله مُحيي كل نفس كالخشية التي أشعر بها حين أقرأ الآية 23 من السورة 39 (الزمر) :
إن تغطية الرأس وإطلاق اللحية وارتداء القميص والحجاب والنقاب والبرقع أو غيرها من الملابس هي نتاج تقاليد لا تمت بصلة إلى الإسلام الأصيل كدين. والأدهى من ذلك أن كل هذه المظاهر لها أثر سلبي على صورة الإسلام والمسلمين بل وتسيء لهم ، خاصة في البلاد غير الإسلامية. كل هذه الأشكال ينظر إليها كمظاهر للظلامية والاستفزاز والطائفية والعدوان.
إن المسلم الواعي والمسؤول لا يطيق أن يُحَرَّفَ الإسلام العظيم ويُقَزَّم بهذه الصورة. إن الإسلام المُنير الذي كان الأصلَ في نشوء وانبعاث العلوم الحديثة قد شوَّهَهُ التقليد الإيديولوجي ليحوّله إلى مجرد دين طقوس ، إلى دين بال ورجعي. على المسلمين أن يستفيقوا على دين العلم والتقدم وأن يَقوا أنفسهم ودينهم من كل شبهة وضرر.
إن عبادة الله لا تتم من خلال الملابس الملفتة للأنظار ولا بالطقوس والشطحات التي تخدع الأبصار ولا بحركات وهمية أو كلمات ملفقة أو بتضحيات زهيدة. إنها تتحقق بقرار صحيح يَتبعُه العمل الصالح.
فعبادة الله والتقرب منه يكون بحبّ الخلق وخدمتهم والتفكير والعمل الصالح والنافع. إن المسلم المؤمن والملتزم يكون عالِما سليمَ القلب مطمئن النفس مصلحا ومحسنا يفشو السلام والأمن من حوله يحيى ويموت في سكينة ، وقد جاء في الآية 143 من السورة 2 (البقرة) :
إن للمسلم عهدا مع الله على أن يؤمن به مخلصا له الدين ، وأن يسارع في الخيرات وهو ومحسن ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو الناس إلى الله وإلى الإصلاح والعدل. له في الحياة الدنيا نصيب والآخرة خير وأبقى وإن خير الزاد التقوى. إن الذي يستشعر وجود الله في كل حين ، فيكون مع الله في قيامه وقعوده ، ويكون مع الله في أكله وشربه ، ويكون مع الله في عمله وفي استراحته ، ويكون مع الله في نومه وفي يقظته ، ويكون مع الله في تفكيره وفي نطقه وفي سعيه ويكون مع الله في فقره وفي غناه ، ويكون مع الله في عافيته وفي مرضه ، ويكون مع الله في شبابه وشيخوخته ، ويكون مع الله في حياته وموته ، فلا يموت إلا وذكر الله في قلبه وعلى شفتيه ؛ فمن كانت هذه حاله فاز في الدنيا والآخرة ، فهو يقوم ويشرب ويأكل ويسعى ويستريح وينام ويحلم ويفكر وينطق ويعمل ويعيش ويموت في سلم وسلام مع نفسه ومع الخلق من حوله ، وعليه يكون في سلم وسلام ورضى واطمئنان مع الله الرحمن الرحيم. أولئك هم المقسطون.
على المسلمين الرجوع إلى رسالة الإسلام الأصلية والخالدة ليُكوِّنوا أمةً وسطا ، أمةَ أول الوحي : { ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ 2 }، مُستنيرين في ذلك بما علّمهم الله.
عليهم أولا أن ينفُضوا ما اعتراهم من إحباط وخوف وأن لا يتهاوَنُوا ، بشتى الطرق والوسائل ، عن التنديد بكل ما ومن يشوّه دينهم بالحقد والعنف. عليهم النهوض من هذه الكبوة المزمنة وإعادة الاعتبار للإسلام الأصيل أمام العالم أجمع ، إسلام العلم والتحضر ، إسلام السلم والسلام وحرية الرأي والتسامح. إسلام يتميّز مُعتنِقوه بالخير والإحسان. فالإيمان بالله لا ينفك عن العمل الصالح. تعلموا محبة الناس ، كونوا محسنين لجيرانكم ، أطعموا الجياع ، وآووا اليتامى ، إن ذلك خَير ، ذلك قسط وما هو بعبث. والآية 110 من السورة 3 (آل عمران) تشهد على ذلك :
إن الإنسان بكل ما أوتي من المعرفة بحاجة إلى تغذية روحه. وسعيُه الروحي وأسئلته الوجودية الملحّة هذه تتطلب إجابات. لقد تراجعت موجات الطوائف اليهودية المسيحية وتلك المستلهَمة من معتقدات الشرق الأقصى كالبوذية أو الهندوسية. وكانت هناك محاولات لإضفاء صبغة روحية على المادية وأخرى لإضفاء صبغة مادية على الروحانية لكنها كلها باءت بالفشل. وكذلك سيؤول مصير الطائفية في أوساط المسلمين المنحرفين ، لكن الإسلام برسالته الأصيلة والأصليّة سيعيد للإنسان اكتشاف إنسانيته ويكفل له الإجابة على الأسئلة الوجوديّة والغائيّة أي الحكمة والغاية من وجوده.